أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..مشاهد من زمن الهذيان!!

عندما وجدت انتشارا هائلا لشجرة نسب متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، يحاول مروجوها إثبات أن الملكة البريطانية إليزابيث الثانية تنحدر من نسل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، تصورت أن الأمر مجرد مزحة ثقيلة الظل استغلالا للحدث الكبير بوفاة الملكة، لكن عندما وجدت قطاعات واسعة من الناس، يشاركون في نشر الأمر بل والدفاع عنه، أدركت أننا وصلنا إلى مرحلة من الهذيان العقلي باتت تستعصي على العلاج!

وعندما قرأت أن شابا يمنيا ألقي عليه القبض بعدما حاول أداء العمرة عن الملكة الراحلة، اقتناعا منه بأنها كانت من نسل الرسول، أدركت أننا وصلنا بالفعل إلى قاع الهذيان، بأن تتحول الفكرة الساذجة من حيزها الافتراضي، إلى سلوك فعلي!!
قد يرى البعض في مثل تلك الأفعال والأحداث مجرد أمور طريفة، لا تستحق التوقف أمامها، ولا ينبغي أن تسترعي الانتباه، لكنني أعتقد أن تلك الظواهر وغيرها كثير يمثل عرضا لمرض خطير، ألا وهو غياب العقلانية، وغلبة توافه الأمور على وعي ونقاشات المجال العام.

المسألة لا تقتصر على تلك الظواهر الطريفة، التي يمكن النظر إليها من باب السخرية والتنكيت، لكن الأمر يصبح أخطر عندما يصل الأمر إلى قضايا أكثر جدية، وأمور أشد أهمية، ولننظر على سبيل المثال إلى العديد من النقاشات الخارجة عن نطاق العقل والمنطق، فضلا عن مخالفتها لمقتضيات العلم، التي هيمنت على مناقشات الناس خلال الآونة الأخيرةحول العلاقات الأسرية وما يلتزم به الزوجان أو لا يلتزمان به.

بالتأكيد، أنا مع احترام حرية الرأي والفكر إلى أبعد مدى، ومن أنصار أن الرأي لا بد أن يواجه برأي، لكن ما نشهده في الآونة الأخيرة من ترويج لهذيان وأفكار غريبة تصل إلى حد الشذوذ، بحثا عن الشهرة، أو جريا وراء “التريند” لا يمكن أن نصنفه تحت مسمى رأي أو فكر، فكثير مما يشغل الناس اليوم في نقاشاتهم لا يتجاوز كونه نوعا من العبث والهذيان الفكري.

الغريب أن ذلك “الهذيان” لا يتوقف عند بعض الساعين إلى الشهرة من عامة الناس، أو ممن سبق أن وصفتهم في مقال سابق بـ”رويبضة السوشيال ميديا”، بل الأغرب أن بعضا من المتخصصين والشخصيات التي كانت تحسب على ما يسمى بـ”النخبة”، باتت هي الأخرى تشارك – بوعي أو بدون وعي- في ذلك العبث!!
ولا أعرف حقيقة إن كانت تلك الشخصيات تعي خطورة ما تقوم به، أم أن السعي وراء تحقيق الشهرة، والغيرة الحمقاء من تحقيق “الرويبضة” للشهرة والمال جراء قدرتهم على تقديم تفاهات تجد طريقها إلى الناس بسرعة تدعو للعجب، قد أعمتهم ودفعت بهم إلى هذا السقوط؟! فكثير من المواقف والمقولات التي يطلقها “هؤلاء”، ولا يعنيهم منها سوى عدد من تحققه فيديوهاتهم أو “بوستاتهم” من “لايكات” ومشاهدات، تؤدي إلى تخريب بيوت وتدمير عقول.

فالحديث العبثي عن “المرأة القوية المستقلة” الذي باتت تروجه شخصيات إعلامية وحقوقية معروفة، قد يكون أحد أسباب ارتفاع معدلات الطلاق، وتحويل العلاقة بين الرجل وزوجته إلى شراكة تجارية تخضع لحسابات المكسب والخسارة، ويتحكم فيها النزاع حول التزامات كل طرف وما يجنيه في المقابل، كلها أمور أفسدت الرباط المقدس بين الزوجين!
والأفكار المضللة عن الحرية، وعن الحق المطلق للشباب والفتيات في اختيار ما يتعلق بحياتهم بعيدا عن احترام قيم الأسرة، والالتزام بواجبات البنوة تجاه آبائهم، ساهمت في إفساد الكثير من عقول شبابينا وفتياتنا، حتى صار التمرد ضد سلطة الأبوين هدفا في حد ذاته، وبطولة يرويها أولئك “المضللين” بفتح اللام، ليتباهوا بها ويتفاخروا بقدرتهم على تحقيق ما أغراهم به “المضللون” بكسر اللام!
ولعل انجراف تلك الشخصيات- التي كنا نظن أن لديها قدرا من التعقل والحكمة، فضلا عن مقدرا من الدراية والمعرفة- إلى هاوية البحث عن الشهرة بأي شكل، لا ينفصل عن الكثير من اختلال معايير التقييم التي باتت تحكم حياتنا، فقيمة الإنسان الآن لم تعد تحددها ما يقدم ويعطي، بل بما يستحوذ ويملك، ومكانة الفرد وسط أقرانه لم تعد تحددها نجاحاته العلمية أو المهنية، بل بمقدار انتشاره وعدد متابعيه، بغض النظر عن قيمة ما يقدمه حتى يجتذب هؤلاء المتابعين.

لذا تجد علماء وأساتذة وباحثين ومحامين وإعلاميين، ضجروا من التمسك بالعقلانية في الطرح، والموضوعية في النقاش، فنزلوا باختيارهم إلى ساحة الرقص العبثي على منصات التواصل الاجتماعي، يهرولون وراء كل مثير وغريب، ويوظفون حصاد خبرتهم ودراساتهم لكي يفجروا أكبر قدر ممكن من الجدل والشقاق بين الناس، يستقطب بالتبعية المزيد من التعليقات، حتى ولو كانت تعليقات غاضبة أو ساخرة، المهم أن يتزايد عدد المتابعين وتتضاعف شهرتهم بأي ثمن!!
قد يكون ذلك الحرص المبالغ فيه على الشهرة وزيادة عدد المتابعين والمعجبين، مقبولا من فئات تمثل الشهرة رأسمالها ومصدر رزقها، أو حتى من أولئك الذي ابتلانا بهم زمن السوشيال ميديا، من يُطلق عليهم تأدبا “المؤثرين”، وأرى أن كثيرا منهم لا يعدو أن يكون مجرد “أراجوزات” مستعدة لفعل كل شيء، وأي شيء، كي يلفت الأنظار إليه.. لكن أن يصدر الأمر عن شخصيات كنا نحسبها على قدر من العلم والوعي والفهم، فهذا واحد من أخطر مشاهد زمن الهذيان!!
بالتأكيد يستطيع مثل هؤلاء، وبخاصة الذين يدسون أنوفهم في الأمور المتعلقة بالبناء الأسري وحقوق الزوجين وواجباتهما، أن يزعموا أنهم يحملون أهدافا نبيلة وراء ما يطرحون من أراءة وأفكار، أو قد يتذرعون بأن تصريحاتهم إنتزعت من سياقها، أو تعرضت للتحريف والتشويه، وذلك كذريعة للإفلات من سيل الانتقادات، لكن الأمر لا يعفيهم من المسئولية ، فقد اختاروا أن ينزلوا بأنفسهم إلى “سوق”السوشيال ميديا، ومن ينزل إلى السوق عليه أن يحتمل من يفيض به من “سوء”!!
والحقيقة أن إدعاء الحرية، أو مزاعم الاختلاف عن الآخرين، أو محاولة طرح المسكوت عنه، لا يمكن قبولها في هذا المضمار، فكثير من تلك المحاولات التي تدفع الناس إلى الاقتتال- الافتراضي حتى الآن-لا تخلو من خبث، ورغبة في تحقيق الرواج بأي ثمن، بينما من يسعون لتحقيق حرية الرأي والفكر ومناقشة قضايا جادة مسكوت عنها، يدركون أكثر من غيرهم أن تحقيق مثل هذه الأهداف له محددات وأساليب ومجالات مختلفة، والنقاش حول هذه النوعية من القضايا ينبغي أن يكون بين مختصين يجيدون دراسة الأمر من مختلف جوانبه، بعيدا عن إثارة العامة، الذين تستهويهم صيحات الإعجاب والاستهجان، دون أن تعي عقولهم تمام الوعي حقيقة ما يُطرح، أو خطورة ما يُناقش!
أخشى القول أننا وصلنا إلى مرحلة جد خطيرة من زمن الهذيان، وهي مرحلة بدأت منذ عقود طويلة، لكنها اكتسبت حضورا وزخما هائلا بعدما وفرت لها منصات التواصل الاجتماعي فرصة الوصول إلى كل يد وعقل وبيت، وهنا يكمن الخطر، فلم يعد خطاب وأفكار الهذيان العقليمحدودة التداول أو التأثير، بل صارت مطروحة على قارعة الإنترنت، تتداولها الأيدي والألسنة وتتسمم بها العقول، والأخطر أنها قد تتحول إلى سلوك وفعل، كذلك الذي ذهب لأداء العمرة عن الملكة إليزابيث “حفيدة الرسول”!!

اقرأ ايضا للكاتب

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .فقر الفكر  وأزمة النخبة  المزعومة 

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص..الطبقة المتوسطة في عام  الرمادة !

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» تراجع دراسة الإعلام مناقشة صريحة وموضوعية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى