أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .فقر الفكر … وأزمة النخبة “المزعومة”

“فقر الفكر .. وفكر الفقر” مصطلح صاغه عملاق القصة الدكتور يوسف إدريس، واختاره عنوانا لكتاب ممتع صدر له في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لكنه لا يزال صالحا للقراءة والتعبير عن الكثير من جوانب واقعنا المعاصر.
الفكرة التي طرحها إدريس ببساطة تشير إلى أن الكثير مما يجري من حولنا والشخصيات التي تتصدر المشهد في الكثير من الأحيان تعاني من فقر في الفكر، وعدم قدرة على امتلاك رؤية حقيقية ومتكاملة تعالج الواقع أو تقدما إسهاما له قيمة، ويقول في مقدمة كتابه :” ظاهرة فقر الفكر وفكر الفقر، أو الفقر في الأفكار المؤدِّية إلى فقر في الحياة والإنتاج، والفقر في الحياة والإنتاج حين يُؤدِّي بدوره إلى فقر فكري، وهكذا دواليك.. تلك الدائرة الجهنمية المُفرَغة التي دخلناها وأصبح حلم حياتنا الأكبر، وحلمي بشكل ثابت خاص، أن نخرج منها”.
والواقع أن مصطلح “فقر الفكر” الذي صاغه إدريس قبل أكثر من ثلاثة عقود لا يزال صالحا للتعبير عن الكثير من أحوالنا اليوم، فكثير من متابعي الشأن العام يلاحظون تراجعا واضحا في “المحتوى” المقدم في الكثير من مجالات الحياة، خاصة ذلك المحتوى الذي تقدمه شخصيات يُفترض أنها تنتمي لما يسمى بـ”النخبة”، أي الأقلية القادرة على توليد الأفكار، وطرح رؤية جديرة بالمناقشة، تسهم في فهم أفضل للواقع، حتى ولو لم تكن سليمة بنسبة مائة بالمائة، لكنها على الأقل تتضمن اجتهادا معتبرا، يسهم في إنارة العقول، وإثراء النقاش الجاد حول أية قضية أو مشكلة مطروحة على المجتمع.
ورغم وجود العديد من الشخصيات المحترمة التي تستحق بالفعل أن تكون في مقدمة صفوف هذه النخبة المفترضة، إلا أن المشكلة تكمن في أن هؤلاء لا يتراجعون فقط من حيث العدد، لكنهم ينحسرون أيضا في المكانة والقدرة على الوصول إلى الجمهور المستهدف.
وقد يرى البعض أن ثمة تقصيرا من تلك الشخصيات المحترمة في الوصول إلى الجماهير، وقد يكون ذلك الاتهام صحيحا في بعض جوانبه، لكنه ليس السبب الرئيس أو العامل الأهم، فكثير من تلك الشخصيات صاحبة العقول الزاخرة بالفكر والرؤية لا تجيد في معظم الأحيان فنون العلاقات العامة، أو أدوات التسويق الشخصي، بل إنها تمنح جل اهتمامها لتطوير فكرها، وإثراء وجدانها، وشحذ عقلها، وأتصور أن ذلك هدف مشروع بل ومرغوب للنخبة الحقيقية، فليس مطلوبا من مثل هذه الشخصيات أن تستنزف الوقت في الدعاية لما تقدم، بقدر ما تهتم بأن تقدم جديدا يضيف إليها وإلى المجتمع ككل.
السبب الذي أعتقد أنه بات أكثر حضورا وتأثيرا خلال السنوات الماضية، وبخاصة مع انتشار تأثير ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي، يتمثل في ظهور طبقة طفيلية، تمثل تجسيدا حقيقيا لـ”فقر الفكر”. هذه الطبقة لا تستطيع أن تنتج فكرا حقيقيا في أي مجال، ولا تمتلك أدوات الخلق والإبداع أو حتى تقديم تراكم معرفي أصيل، لكنها في المقابل تجيد فنون العلاقات العامة، والتسويق للذات، وإدعاء المكانة، واستخدام أدوات الترويج الإلكتروني، سواء بشكل شخصي، أو حتى من خلال شراء وتوظيف خدمات متخصصين في هذا الشأن، في اختلاق واصطناع صورة ذهنية تحيط بها، بحيث تستطيع أن تفرض نفسها بإلحاح تُحسد عليه، وتسطو على أفكار الآخرين من هنا أو هناك، وتعيد إنتاجه بطريقة أكثر شعبوية أو أساليب مناسبة لذوق ومستوى الغالبية العظمى من جمهور “السوشيال ميديا”، وباستخدام أدوات الترويج الالكتروني وشراء المتابعين أو اجتذابهم بهذا المضمون الضحل، والإلحاح المستمر على ضخ هذا المحتوى التافه، يتحول هؤلاء إلى “نجوم” و”أباطرة” يتابعهم الملايين، ويفرضون سطوتهم على العقول، رغم ضحالة وسخف ما يقدمون في أغلب الأحيان.
وعندما تفتش في مؤهلات الغالبية العظمى لهؤلاء، لن تجدهم يمتلكون أية كفاءة مهنية أو إنجازا حقيقيا في حياتهم العملية، سوى أنهم يستطيعون التقاط ما يثير شهية المتابعين بأي شكل وبكافة الصور، ويجيدون إثارة الجدل بتصريحاتهم زأقوالهم أو أفعالهم، كما يجيدون التقاط القضايا الجماهيرية المثيرة، وبعضهم يلعب على وتر “المعارضة” وتقديم نفسه على أنه صاحب الرؤية البديلة التي يدعي بها امتلاك الحقيقة المطلقة و”الصوابية” التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها!!
وهكذا تستطيع تلك الفئة الطفيلية مما يسمى بالنخبة الفكرية والإعلامية، “إشعال” و”إشغال” المجال العام بكلام لا أصل له أو قيمة، ولا يعدو أن يكون لغوا حقيقيا، يستنزف ساعات من أعمار المتابعين وأعصابهم دون أن يقدم شيئا ذا قيمة!!
بل إنك عندما تتدقق فيما يقدمون، قلما تجد به جديدا، فمعظمه إعادة تدوير لأفكار الآخرين، والغالبية منهم تستبيح لنفسها السطو على الأفكار وتستمرئ “لطش” اجتهادات الآخرين، دون وازع من ضمير مهني أو التزام أخلاقي يجعلهم على الأقل يكلفون أنفسهم عناء ذكر المصدر، فقد وصل هؤلاء من الانتفاخ والتضخم إلى اعتبار أن أي شيء يقدمونه يكتسب قيمته فقط لأنهم يقولونه ، أو بالأحرى يرددونه!
وهؤلاء لديهم من التبجح والصفاقة والوقاحة وانكشاف الوجه، ما يجعلهم يواجهون من يكشف سطوهم ولصوصيتهم، بجرأة يحسدون عليها، فلا يذكر من أين “لطش” ما يكتب أو يقول، وإذا ما حاصرته الاتهامات، يكتفي بالقول أنه “منقول”، ولن يعدم في هذه الحالة حيلة، فالكل ينقل، والسوشيال ميديا والإعلام ساحة مفتوحة للنقل وإعادة التدوير!!
وغالبا ما ستجد معظم هؤلاء يطلقون على أنفسهم ألقابا خزعبلية، فيبالغون في وصف أنفسهم، ويلصقون بأسمائهم ألقابا ما أنزل الله بها من سلطان، من عينة “مفكر” أو “خبير” أو “مستشار”، وهذه الألقاب ليست فقط لزوم “الفشخرة” و”المنظرة”، ولكنها لزوم الشغل، كي تنطلي الخدعة على البسطاء الذين تبهرهم الألقاب وتغريهم الصور!!
لم أكن أتخيل حجم ذلك العالم المظلم لصناعة أباطرة ما يسمى بالنخبة، وبخاصة في عالم السوشيال ميديا، إلا عندما تعرضت لتجربة شخصية خلال الأسبوعين الماضيين، تتمثل في سطو العديد من هؤلاء على فكرة طرحتها في مقالي بجريدة “الأخبار”، ونُشرت يوم الثلاثاء 23 أغسطس الماضي على بوابة “أخبار اليوم”، وتتضمن مقترحا بأن تسعى وزارة السياحة إلى أن تقنع الدول الأوروبية بقضاء مواطنيها شهور الشتاء الباردة في مقاصدنا السياحية الدافئة، فينقذوا أنفسهم من عناء أزمة طاقة متوقعة جراء الحرب الروسية الأوكرانية، ويقدموا حلا غير تقليدي لمواطنيهم، ويوفروا مبالغ طائلة على دعم الطاقة.
ولم أكن هنا أسعى إلى مجد شخصي أو عائد خاص، لكنني أقدم مقترحا ظننته يخدم بلادي ويقدم رؤية يمكن تبنيها من الجهات المعنية، لكنني فوجئت بالعشرات يسطون على الفكرة، ويقدمونها على أنها من بنات أفكارهم، والغريب أن الوحي لم ينزل عليهم إلا بعد نشر المقال بعدة أيام!!
تصورت في البداية أن استخدام بعض هؤلاء للفكرة كان “خطأ غير مقصود”، وسعيت بحسن نية إلى التوضيح، طلبا لاحترام أمانة النقل وتعزيزا لأخلاقيات المهنة، التي كنت أظن أن من سطوا على الفكرة يسمعون عنها، وبعضهم أسماء إعلامية لها شهرتها، ولمزيد من الأسف والأسى، لم يستجب سوى واحد أو اثنين من هؤلاء، بينما استمر العشرات في نهجهم اللصوصي على مدى أيام طويلة بعد نشر المقال، وربما إلى الآن!!
أحدهم وكان الأكثر بجاحة ووقاحة، يصف نفسه بأنه “مفكر اقتصادي” سطا على الفكرة ونسبها لنفسه، وعندما أخبره المعلقون على صفحته بأنها فكرة مطروحة منذ أيام، اكتفى بالرد بأنه نقلها عن صديق له مقيم في دولة أوروبية، وعندما أخبرته شخصيا بأن من يزعم أنه نقل عنه كان سارقا للفكرة الأصلية، لم يكتف بالرد، وإنما لجأ إلى الردح!! ربما ليخفي بطحات كثيرة تكسو رأسه الخالي من أي فكر، والمثقل ببطحات السطو على أفكار الآخرين، بل وبترويج العديد من الأباطيل ضد الدولة وأجهزتها المسئولة، دون أن يكلف نفسه يوما عناء الاعتذار، حتى لا يفقد مكانته لدى “مهاويسه”!!
اللافت أنه بعد البحث والمتابعة الدقيقة على مدى أيام، أدركت أن تلك النماذج الفارغة والخاوية من أي فكر، أو احترام لأخلاقيات، ليست نبتا عشوائيا، بل هي تجسيد لطبقة كاملة، احتلت في غفلة من الزمن، مساحة للتأثير لا تتناسب وما تمتلك من قدرة أو كفاءة، بل لا أبالغ إن قلت أن ثمة تناسبا عكسيا بين مفاهيم الكفاءة الفكرية، وبين ما تشغله من مكانة!!
بعد تلك التجربة، خرجت بخلاصة أراها مهمة، حتى ولو لم تكن جديدة، وهي أن مصر بحاجة ماسة وملحة لتجديد نخبتها على كافة المستويات، وبخاصة الفكرية والإعلامية والثقافية، فالكثير من تلك الوجوه التي باتت تفرض نفسها ورؤيتها عبر منصات واسعة الانتشار تعاني من إفلاس واضح وعجز فاضح، فقد باتت تلك الوجوه التي يُفترض أنها أداة لبناء الوعي وتنوير الرأي العام، وسيلة لإفساد العقول وتضليل الأفئدة، بل إنها لا تفعل ذلك خدمة لغرض أو هدف بعينه، وإنما لأنها باتت نموذجا لـ”فقر الفكر”، فهي حتى لا تدرك ما تعيد تدويره ولا تدقق فيما تنقله، المهم أن تحشو الصفحات، وتضخ الفيديوهات، وتعبئ ساعات البث بغثاء كغثاء السيل، لتصبح نموذجا يدلل على عبقرية الأمثال الشعبية المصرية، التي يجسد أحدها حالة هؤلاء ويصفهم بأنهم “زي الطبلة .. صوت عالي وجوف خالي”!!

اقرأ ايضا للكاتب

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (4)   إصلاح البحث العلمي

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (3)  إصلاح التعليم

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .. هوامش على دفتر الإصلاح (1).. الإصلاح السياسي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى