أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص..الطبقة المتوسطة في عام “الرمادة”!

أعود مجددا للكتابة عن الطبقة المتوسطة، وليت العود كان أحمدا، كما كنت أتمنى وأرجو، لكنه عود على وقع تفاقم الضغط على تلك الطبقة قليلة الحظ، كثيرة الضغوط، في عام صعب وقاسٍ، ولا نبالغ إذا ما وصفناه بعام “الرمادة” على تلك الطبقة التي باتت تستحق الرثاء.

وعودتي إلى الكتابة عن الطبقة المتوسطة هذه المرة من بوابة التعليم، فلا صوت يعلو اليوم في كل بيوت تلك الطبقة المأزومة اقتصاديا والمنحسرة اجتماعيا سوى عن قضايا تتعلق بالتعليم، فإما أن لها ابنا أو ابنة انتهى من تعليمه الثانوي، ويستعد لاتخاذ خطوة أكثر تأثيرا في بناء مستقبله المهني باختيار كلية يدرس بها، تحدد إلى حد كبير مساره المهني ومصيره المستقبلي.

أو أن بعض تلك الأسر قد بدأت بالفعل دخول ماراثون الثانوية الخطير، وبدأ أبناء تلك الأسر المتوسطة أو بعضهم التعلق في ساقية الدروس الخصوصية، التي باتت أكثر ثباتا واستقرارا في تحديد مواعيد عملها، بدرجة تفوق قدرة وزارة التربية والتعليم نفسها، والتي غالبا لا تستطيع تحديد موعد بدء الدراسة، وكثيرا ما تعمد إلى التعديل والتبديل، ربما كنوع من التخبط أو كسر للملل إذا أحسنا الظن بها – وبعض الظن بوزارة التربية والتعليم، ليس دائما إثما!!
نجحت منظومة الدروس الخصوصية أن تكون أكثر نجاحا من وزارة التربية والتعليم بجلالة قدرها، ففرضت على أولياء الأمور نظاما صارما لإلحاق أبنائهم بتلك المنظومة، فمن لا يلحق نفسه وينضم قبل الأول من أغسطس، فربما يجد نفسه منبوذا معزولا، يقبل بالمتردية والنطيحة وما أكل السبع من صغار المدرسين ومن ليس له سمعة مدوية في أوساط “السناتر”. أما الحيتان الكبار، فإنهم يغلقون قوائم القبول لديهم ربما قبل بدء الدراسة بعام كامل، ولديهم جيش من المعاونين والمساعدين، يوفرون للطلاب كل وسائل الالتحاق قبل فوات الأوان.

أما الفئة الثالثة من أبناء الطبقة المتوسطة المصلوبين على جدران النظام التعليمي، فهم أولئكالذين لا يزال أبناؤهمفي مراحل التعليم المختلفة، لكنهم يخطون بثبات نحو مصيرالثانوية العامة المحتوم، فقلوبهم وجلة، يترقبون ما سيُفعل بهم وبأولادهم في قادم الأعوام، وشعارهم وهم يتابعون ما يجري لطلاب الثانوية العامة الحالية: “أنتم السابقون .. ونحن اللاحقون”!

هذه الفئة الأخيرة تعيش معاناة كل عام، من سداد أقساط المدارس الخاصة، والكثير منهم يلحق أبنائهم بتلك المدارس هربا من تراجع مستوى الدراسة بالمدارس الحكومية على اختلاف تنوعاتها، لكنه يفاجأ بأنه لا فارق كبير بين ما كان يحاول الهروب منه، فصار ينطبق عليه وصف “المستجير بالرمضاء من النار”، بل إنه أصبح مضطرا لأن يدفع ثمنا مضاعفا لكل شيء، فهو في نظر المجتمع من الأثرياء الذين يستحقون معاملة نبلاء روسيا القيصرية بعد اندلاع الثورة البلشفية !!

أما من ينتمي أولادهم للمدراس الحكومية، ويتمعون – اسميا على الأقل – بمجانية التعليم، فعليهم أن يضمنوا تعليما غير مجاني لأبنائهم سواء بتكوين مجموعات الدروس الخصوصيةعبر السناتر، التي صارت هي المدرسة الحقيقية، بعدما تنازلت المدارس عن دورها، وصار هناك اتفاق غير مكتوب وتواطؤ معلن بين المعلمين والطلاب والإدارات على أن المدرسة ليست سوى مكان لقضاء وقت الفراغ وأداء الامتحاناتوإصدار الشهادات فقط!!
قد تكون تلك المعاناة مسألة سنوية معتادة، لكنها تكتسب بعدا إضافيا هذا العام، أولا بسبب الأزمة المالية التي يعانيها العالم أجمع، وينالنا منها نصيب لا بأس به، فما كنا نشتريه العام الماضي بجنيه، صار سعره أضعافا مضاعفة، سواء بفعل ارتفاع أسعار الخامات وعوامل التضخم، أو كنتيجة لجشع تجار يدركون أن بضاعتهم ستباع في هذا الموسم بأي سعر!!
جميع المدارس الخاصة زادت مصروفاتها، الباصات أضافت عدة آلاف لتكاليفها تحت دعاوى ارتفاع أسعار الوقود وقطع الغيار، والزي المدرسي هو الآخر أصبح سعره مضاعفا، والرد الجاهز لدى البائعين: “كل حاجة بقت نار يا بيه”، حتى الأدوات المكتبية والكتب الخارجية زاد سعرها ضعفا أو أكثر، والأب مضطر أن يشتريها ويدفع أيضا مصروفات الكتب المدرسية التي لا تأتي إلا قبيل الامتحانات، وأحيانا لا تأتي، وطبعا سعر الورق تضاعف خلال الأزمة الروسية الأوكرانية عدة مرات، وعلى الطبقة المتوسطة أن تتحمل، وتدعو الله أن يهدي السيدين بوتين وزيلينسكي إلى سواء السبيل!!
حتى الذين انتهوا من “صراع” الثانوية العامة، متخيلين أنهم وصلوا إلى بر أمان يلتقطون فيه بعضا من أنفاسهم المقطوعة، يفاجأونبأنهمدخلوا في “صرع” أكبر اسمه مصروفات الجامعات، فالعديد من الأسر دهسها قطار المجاميع، وباتت تبحث عن فرصة لأبنائها ينقذون بها ما تبقى من أحلام الماضي القديم، والذي بددته نتائج العام الحالي.

وهنا يكتشف أولياء الأمور من أبناء الطبقة المتوسطة، أنهم لا يستطيعون اللحاق بالأسعارالفلكية التي تتطلبها الجامعات الدولية وبعض الجامعات الأهلية والخاصة، كما أنهم غير مسموح لهم بركوب قطار الجامعات الحكومية، إلا لو رضوا بالمقسوم من الكليات التي يرونها لا تلبي طموحاتهم القديمة، وهنا لن يكون أمامهم سوى اختيار الجامعات الخاصة متوسطة المستوى، وكأنما صار حتما عليهم أن يكونوا دائما متوسطي الحال والطموح والأمل!!
السؤال الذي يؤرق كثيرين من أبناء تلك الطبقة المتوسطة – وأنا منهم – ليس فقط كيف يمكن تدبير كل تلك المتطلبات في عام “الرمادة” الحالي، ولكن أعتقد أن السؤال الأكثر إيلاما هو: هل الأمر فعلا يستحق كل هذا العناء؟!
هل بالفعل يحصل أبناؤنا على تعليم يوازي تلك المشقة؟ وهل يتطورون عقلا ووجدانا بما يتناسب وكل تلك التكلفة؟!أم أننا نحرث في بحر، ونزرع في أرض جدباء، تلتهم كل ما نلقي إليها من أموالنا وثمرة تعبنا وعنائنا، لينتقل هؤلاء الأبناء من صف إلى آخر، يكدسون الأوراق في ملف تعليمي متخم بالشهادات، دون أن يكون لذلك أثر حقيقي فيما سيحصلون عليه من فرص في المستقبل؟!
أتصور أن هذا هو السؤال الذي يؤرقني وكثيرين مثلي، فالإنفاق على التعليم كان ولا يزال أولوية لا تحتمل التهاون أو التنازل لدى الطبقة المتوسطة، التي تؤمن بأن التعليم هو سبيلها الوحيد للإرتقاء الاجتماعي، لكن في ظل كثير من المتغيرات والضغوط التي تتعرض لها تلك الطبقة المسحوقة، هل لا تزال بالفعل عند إيمانها بتلك الثوابت؟
وهل تستطيع في ظل الضغوط المادية الهائلة التي تتعرض لها أن تبقى مخلصة لمعتقداتها القديمة؟
حقيقة لا أمتلك إجابة دقيقة أو صريحة… لكنني أمتلك يقينا صادقا بأن الويل كل الويل لهذا المجتمع لو “كفرت” الطبقة المتوسطة بإيمانها القديم في التعليم، وواصلت إنزلاقها المتسارع على درجات السلم الاجتماعي، فالقاع مظلم والعاقبة وخيمة.

اقرأ ايضا للكاتب

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» تراجع دراسة الإعلام  مناقشة صريحة وموضوعية

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع »خارج النص..حواديت القاهرة .. تستعيد شباب مدينة الأربعة آلاف عام!

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع » خارج النص.. مآساة الموت وحيدا!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى