أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» تراجع دراسة الإعلام … مناقشة صريحة وموضوعية

“بحكم إنك من خريجي كلية الإعلام وتعمل بالصحافة … إيه رأيك ابني أمامه كلية الإعلام أخليه يكتبها في رغبات التنسيق ولا الأفضل يبعد عن دراسة الإعلام؟”

سؤال يبدو أن كثيرين من زملاء المهنة والعاملين في الحقل الإعلامي قد واجهوه على مدى الأعوام الأخيرة، وغالبا ما تتراوح الإجابة بين النصيحة الصريحة بالرفض، أو محاولة  “المواربة” بترك الابن يختار ما يناسبه، مع إشارة مقتضبة لصعوبة الفرص التي باتت متاحة في المجال الإعلامي، والقليل وربما النادر من ينصح صراحة بالالتحاق بدراسة الإعلام، وغالبا هذا الأخير ستؤخذ نصيحته بكثير من الريبة في ضوء نصائح عديدة معارضة!

وبالتأكيد فإنني أحد الذين شعروا بالأسى لتراجع مكانة الدراسة بكليات الإعلام، وبخاصة الكلية الأم، بجامعة القاهرة، على سلم أولويات الطلاب، بعدما كانت الكلية تأتي في صدارة ما كان يُعرف بكليات “القمة”، لكن ذلك الشعور بالأسى، لم يتحول إلى إحساس بالأسف، لأن هناك جملة من الأسباب التي أراها عقلانية ومنطقية جدا، وتقف وراء ما يعتبره البعض “تراجعا”، بينما أراه استجابة طبيعية لجملة من التحولاتيتعلق بعضها بطبيعة مؤسسات التعليم الإعلامي في بلادنا، والبعض الآخر يتربط بالمجال الإعلامي كصناعة تنتج فرص عمل.

وأولا، وبعيدا عن أية اعتبارات تتعلق بالنوستالجيا (الحنين إلى الماضي)، فأنا واحد من المتيمين بكلية الإعلام جامعة القاهرة، اخترتها كرغبة أولى، رغم حصولي على مجموع درجات يقترب من 99% بالثانوية العامة، وكانت الدراسة بها حلما كبيرا حققته، سواء على المستوى الجامعي أو ما بعد الجامعي بالحصول على درجة الدكتوراه من هذه المؤسسة العلمية المرموقة، التي لا أزال أؤمن بأن التحاقي بها قبل نحو ربع قرن كان نقطة مضيئة في حياتي، ولا يزال لها فضل كبير في تكويني.

ثانيا: أعتقد أن النظر إلى قضية العزوف عن دراسة الإعلام، وتراجع هذا المسار إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة على سلم اختيارات طلاب القسم الأدبي على وجه التحديد، وهم الفئة الأكثر حضورا في دراسة الإعلام، يحتاج إلى معالجة تتجاوز فكرة التفضيل العاطفي، بل إن ثمة عوامل موضوعية كثيرة بعضها واضح، وبعضها كامن تقف وراء ما يراه البعض “تراجعا”.

ثالثا: اختيار الدراسة بكليات الإعلام من عدمه، تتحكم فيه عوامل لا ترتبط فقط بطبيعة الدراسة أو ما توفره لاحقا من فرص عمل، بل إنني أتصور أن الأمر أكبر، ويرتبط كثيرا بتحولات في طبيعة الوظائف التي ستحظى بفرص أكبر من الأهمية والاهتمام في المستقبل، كذلك بالمعايير التي تتطلبها تلك الوظائف، وسأحاول هنا مناقشة أبرز تلك العوامل بأكبر قدر من الوضوح، وأعلى درجة من الصراحة.

ولعل من أهم العوامل التي أراها من بين أسباب العزوف عن دراسة الإعلام، هو ذلك التزايد الهائل وغير المسبوق في عدد مؤسسات التعليم الإعلامي، حتى أنه يمكن الإشارة إلى أن هناك ما يزيد عن 40 كيانا تعليميا جامعيا يوفر دراسة الإعلام، منها أربعة كليات تتبع جامعات حكومية بعضها يقدم أكثر من برنامج للدراسة بالعربية أو باللغات الأجنبية، يعني أكثر من كلية داخل الكلية الواحدة، إضافة إلى كلية على الأقل بكل جامعة خاصة وأهلية، علاوة على عشرات الأقسام التي تدّرس الإعلام بكليات الآداب، والتعليم المفتوح (قبل إلغائه).

وبحسبة بسيطة، فإننا سنجد أن عدد دارسي الإعلام في مصر قد تضاعف عشرات المرات خلال السنوات الماضية وليس العكس، كما قد يفهم من النظرة الأولية لتراجع الحد الأدني للقبول بالجامعات الحكومية، فقبل عدة عقود، لم يكن هناك سوى كلية واحدة للإعلام، وبضعة أقسام للصحافة بكليات الآداب، بينما اليوم صارت دراسة الإعلام متاحة في عشرات المؤسسات التي لم تعد تكتفي بعدد قليل من الطلاب، بل كل منها يخرج كل عام المئات من الطلاب، وبالتالي صار المعروض كبيرا بما يفوق احتياجات سوق العمل الفعلية.

الأمر الثاني أن الحديث عن دراسة الإعلام وارتباطها بسوق العمل تتحكم فيه مجموعة من المقولات، تؤدي في كثير من الأحيان إلى فتور في الحماس لقرار دراسة الإعلام، ولعل أول تلك المقولات وأراها صحيحة تماما، وهي أن الفرص المتاحة للعمل بالمجال الإعلامي باتت محدودة، وهذا صحيح تماما إذا ما نظرنا إلى العلاقة غير المتوازنة بين العرض (عدد الخريجين من دارسي الإعلام) والطلب (فرص العمل)، فعدد الخريجين في تزايد مستمر، في مقابل ثبات أو تقلص الفرص التي تتيحها المؤسسات الإعلامية نتيجة الاندماجات، والتحولات التكنولوجية التي باتت تتطلب عاملين بمهارات متعددة، تمكّن الفرد الواحد من أداء عمل فريق كامل فيما سبق.

يُضاف إلى ذلك، معضلة جدلية غير محسومة، وهي أن من يعمل بالإعلام ليس بالضرورة أن يكون من خريجي الإعلام، فالمجال الإعلامي من القطاعات المرنة التي يمكنها أن تستوعب خريجي العديد من الكليات، فليس مستغربا أن تجد بين العاملين في المجال الإعلامي – وكثير منهم موهوب ومتميز بالفعل – من تخرج في كليات الطب والزراعة والصيدلة والتجارة والحقوق والآداب واللغات العربية والأجنبية، والهندسة والفنون الجميلة والتطبيقية وغيرها.

وهذه القضية ظلت لسنوات طويلة – ولا تزال- تؤرق دراسي وخريجي كليات الإعلام الذين يلاقون منافسة في مهنتهميرونها غير عادلة في كثير من الأحيان، ويتساءلون لماذا لا تقتصر ممارسة مهنة الإعلام على دارسيه، إسوة بمهن كالطب والصيدلة والمحاماة والمحاسبة وغيرها، لكن بالطبع الإجابة تكون واضحة، وهي أن الإعلام مهنة تعتمد على الموهبة بالأساس، ثم تُصقل بالدراسة والممارسة، وبالتالي سيبقى الباب مفتوحا أمام دخول غير دارسي الإعلام إلى دروب المهنة.

يُضاف إلى ذلك أيضا الكثير من المقولات التي تبالغ في دور “الواسطة والمحسوبية” في توفير فرص للعمل بالمجال الإعلامي، وهذا أمر لا يمكن لعاقل أن ينكره، كما لا يمكن لمنصف أيضا أن يعتبره الطريق الوحيد للعمل والحصول على فرصة لإثبات الذات المهنية، فإذا كان لبعض الوساطات دور في بداية الطريق، فإنها لن تستطيع أن تدفع بغير الموهوبين أو المستعدين للتعلم لاستكمال بقية الطريق ومواصلة المشوار، وهو كما يعلم جميع من يعملون بالحقل الإعلامي طويل وشاق ومليئ بالعقبات والصعوبات، ومن يقرر مواصلة السير فيه فعليه أن يتحلى بالصبر والمثابرة والكثير من الجهد والعمل على تطوير الذات.

يتبقى أخيرا لاستكمال تلك المناقشة الموضوعية، أن نشير إلى أن تراجع الحد الأدنى للقبول بكليات الإعلام، لم يكن قاصرا على تلك الأخيرة، فإذا ما نظرنا إلى كليات مثل الهندسة والعلوم بل وحتى الصيدلة، سنجد أن معدلات القبول بتلك الكليات تراجعت بصورة أو بأخرى على مدى السنوات الماضية، بل إن كلية مثل الحقوق كانت قبل أكثر من نصف قرن تتصدر رغبات طلاب الثانوية العامة، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن تتحول اختيارات الطلاب وفق تحولات سوق العمل وطبيعة المجتمع من فترة إلى أخرى.

أما فيما يتعلق بدراسة الإعلام فأعتقد أن الأمر أيضا يحتاج إلى إعادة نظر من مسئولي المجلس الأعلى للجامعات، فلا يُعقل أن يكون هناك كل هذا الكم من كليات الإعلام، وبهذه الأعداد من الطلاب في ظل سوق إعلامي شبه ثابت، وهو ما يؤدي إلى النزول بالحد الأدنى في بعض كليات الإعلام بالجامعات الأهلية والخاصة إلى 55%، وهو حقيقة معدل لا أعتقد أنه يتوافق مع متطلبات خريج الإعلام في المستقبل، الذي لا يعترف إلا بالفائقين علما وعملا ولغة وموهبة وتدريبا، فليس أقل من تقليص أعداد دارسي الإعلام بتلك الكليات، إضافة إلى تجميد إصدار تراخيص بإنشاء كليات جديدة للإعلام.. حتى يمكن أن نحظى بخريجين مؤهلين لبناء الوعي وجديرين بالانتماء لمهنة تساهم في صناعة العقول.

اقرأ ايضا للكاتب

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص..حواديت القاهرة .. تستعيد شباب مدينة الأربعة آلاف عام!

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع » خارج النص.. مآساة الموت وحيدا!!

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع » خارج النص.. مشروع قومي لكتابة التاريخ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى