أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع » خارج النص.. مآساة الموت وحيدا!!

أتألم كثيرا عندما أسمع نبأ رحيل أحد ممن أعرفهم، سواء معرفة مباشرة أو غير مباشرة.

ويتضاعف ألمي عندما أعرف أنه مات وحيدا، وواجه لحظات النهاية بمفرده، لا أهل يحيطون به، ولا أحبة يودعونه في لحظاته الحياة الأخيرة.

أعرف أن وجود الناس من حول من تحين لحظة رحيله لا يخفف من الأمر شيئا، فكما يقول الله تعالى:(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، لكن وجود من نحب إلى جوارنا، ربما يمنحنا لحظة طمأنينة أخيرة قبل الوداع الأخير.

تعدد حوادث رحيل شخصيات معروفة وغير معروفة وهم وحدهم، وبعضهم لا تُكتشف وفاته إلا بعد موته بأيام، وقد يسوء الأمر فيكون مصحوبا بتفاصيل إنسانية مؤلمة حول أسلوب اكتشاف الجيران لتلك الوفاة، وعجزهم عن التواصل مع أهل المتوفى!!
تختلف القصص، وتتعدد أسباب اختيار هؤلاء للعزلة، بعضها قد يكون اختياريا بعدما مّل المنعزلون التعامل مع الكثير من أوجه الزيف في حياتنا.

وربما عانى بعضهم اضطرابات نفسية، أو ضغوطا عصبية دفعتهم إلى البحث عن هدنة أو استراحة بعيدا عما يحيط بهم من ضغوط.

وربما تكون تلك العزلة إجبارية، بعدما يرحل أغلب من نحبهم ونثق بهم في هذه الحياة، خاصة إذا لم يُقدّر للبعض– لأسباب متعددة- امتلاك أسرة وأبناء، فيجد نفسه منعزلا بحكم القدر، ووحيدا بإرادة الأيام.

النتيجة واحدة في كل الأحوال، إنسان يعيش وحيدا، لا يحتاج للتواصل مع العالم سوى هاتف محمول وبعض النقود، فمن خلال الهاتف يستطيع شراء متطلباته لتصله إلى باب بيته ودون الحاجة إلى النزول أو التفاعل مع المحيط الذي يعيش فيه، وربما استطاع أداء عمله عن بعد، فضلا عن التواصل مع المجتمع افتراضيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

يتصور هذا الإنسان أنه وجد فردوسه المفقود، بيت هادئ، لا يعرف من المحيطين به أحد، ولا يفسد عليه عزلته منهم أحد، يفعل ما يريد وقتما يشاء، لا أحد يتحكم في أموره سوى نفسه، وليس مضطرا للخروج إلى العالم، إلا في أضيق الحدود.
وحتى إن كان يحظى بعائلة أو حفنة من الأصدقاء، فإن التواصل معهم اليوم لا يدوم لأكثر من ثوان أو دقائق معدودة، هي مدة المكالمة الهاتفية، إن تمت من الأساس، فأغلب تواصل الناس اليوم يجري عبر تطبيقات الرسائل القصيرة، مجرد أسئلة سريعة باهتة، عبارات معلبة لا تنقل حرارة المشاعر، ولا تحمل دفء الود الحقيقي.

بل في معظم الأحيان لا يتجاوز الأمر مجرد صور معلبة وتصاميم جرافيكية جامدة، تتناقلها الأيادي عبر الشاشات، دون أن تعبر عن مشاعر حقيقية، ويتصور الناس أن هذا هو التواصل الحقيقي!
اختفت من حياتنا عادات الدردشة بين الأصدقاء، والفضفضة مع المقربين منهم.

تلاشت مظاهر الزيارات الاجتماعية والتجمعات العائلية، واللمة في المناسبات المختلفة، الأفراح والأتراح، أعياد الميلاد والسبوع، بل وحتى التجمع لمشاهدة مباريات كرة القدم المهمة.

صارت كل أسرة تغلق على نفسها الباب، والجيران لا يعرف بعضهم بعضا، اختفت مظاهر الود في رمضان وتهنئة الجيران في الأعياد، والتقاء رجال المنطقة بعد صلاة الجمعة.

الجميع في عجلة من أمره، الأب المنهك في عمله لا يعرف الكثير عن شئون الأبناء، والأم المشغولة دائما لا تجد فرصة للتنفس، والأبناء كل منهم في غرفته يعيش مع هاتفه المحمول، ويعرف تفاصيل أصدقائه الافتراضيين أكثر مما يعرف عن شقيقه أو شقيقته في الغرفة المجاورة، أو حتى في نفس الغرفة!!
يهاجر الأبناء بحثا عن الرزق، ويتركون الآباء والأمهات في عهدة القدر، يواجهون أشباح الشيخوخة وهزائم المرض، وآلام الوحدة، تتباعد اتصالاتهم، ويجف مداد الكلمات في تلك المكالمات المتباعدة، حتى يتحول الاتصال إلى عبء ثقيل، فلا خبرات مشتركة يمكن أن تنعش الحوار، ولم يعد مخزون الذكريات كافيا لوصل حبل الود الذي قطعه البعد.

وليس أشد من الغربة، سوى الاغتراب، عندما يشعر المرء أنه بت غريبا في وطنه، لا يفهم كثيرا مما يدور من حوله، تلاشت الوجوه المحببة إلى القلب من جواره، انشغل الجميع في الجري وراء سراب الحياة الذي لا ندركه أبدا، وباتت المشاعر فاترة، مصطنعة، فيختار المرء الانطواء على نفسه، واعتزال ما يتصور أنه يؤذيه.
وكلما ابتعد شعر براحة، لكنه لا يدرك أن تلك الرحلة لا تنتهي، وأن ذلك الغوص في أعماق ذاته لن يكون له قاع يمكن الوصول إليه.

تغيرت الحياة من حولنا، وتغيرنا مع تلك الحياة، صار كثيرون يعيشون في وحدة، سواء كانت بالمعني الحقيقي للكلمة، أو بالمعنى المجازي، وأحيانا بالاثنين معا، وهذا ذروة الألم، وقمة المآساة.

أتمنى، وأدرك أن تلك ربما تكون أمنية مستحيلة، أن نتغير، وإذا لم نستطع أن نتغير فعل الأقل يمكن أن نكون أقل قسوة.
ليبحث كل منا في ذاكرة هاتفه عن قريب غابت أخباره عنه لفترة طويلة، ليمنح نفسه دقيقة أو دقيقتين ليسأله عن حاله، فلربما كان ذلك السؤال طوق نجاة في لحظة ضيق.

لينقب كل منا بين أسماء أصدقائه عن أحد من كانوا مقربين إليه، واعتلت صداقتهما ذرات غبار الأيام، فلينفض بمكالمة – لا مصلحة من ورائها- ذلك الغبار، وليحي ودا ربما لا تزال جذوته دافئة رغم ركام الرماد الذي خلفته سنوات النسيان.
الحياة أقصر من أن نضيعها في انشغالات لن تنتهي، أو نبددها في جري محموم وراء سراب لا يُدرك.

والتواصل مع الناس حتى وإن حمل بعض الضغوط، أفضل ألف مرة من التحسر على من يموتون وحدهم، وقد تكون أنت – دون أن تدري في لحظة ما، من يتحسر الناس عليه لأنه .. مات وحيدا!!

اقرأ ايضا للكاتب

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (4) إصلاح البحث العلمي

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (3) إصلاح التعليم

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .. هوامش على دفتر الإصلاح (1).. الإصلاح السياسي

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى