أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص …تجار الأكاذيب .. وذاكرة السمكة!

تؤكد عدة دراسات علمية أجريت حول قدرة الإنسان على التذكر والانتباه، خاصة بعد اعتماد بني البشر على الوسائل الإلكترونية، والإفراط الشديد في استخدام مصادر الإنترنت لساعات طويلة، أن ذاكرة الإنسان أصبحت أضعف من السمكة، وأن قدرة الإنسان على الانتباه والتركيز صارت في حدها الأدني، بعدما بلغت 8 ثوان فقط، بينما تستطيع السمكة التركيز لمدة 9 ثوان.

المدهش في نتائج تلك الدراسات، ليس فقط ما كشفته بشأن تراجع قدرة الإنسان على الانتباه والتذكر، حتى صار أقل من ذاكرة السمكة، التي كان يُضرب بها المثل في النسيان السريع وعدم الانتباه، بل الأخطر أن ذلك التدهور في قدرة الإنسان على التركيز والانتباه يسير بوتيرة مثيرة للخوف، ففي عام 2000 كان ذلك المعدل أكثر من 12 ثانية، وقد تراجع بمقدار يتجاوز الثلث في أقل من 15 عاما فقط، رغم أن اعتماد الإنسان على الأجهزة الرقمية خلال تلك السنوات، لم يكن بالقدر المخيف الذي نعيشه اليوم، وهو ما يعني أن مزيدا من التدهور في الطريق!!

وعندما أتابع نتائج تلك الدراسات، فإن ما يزعجني فيها ليس فقط فكرة أن الإنسان سيصبح عما قريب فاقدا للذاكرة، أو كائنا تائها في ملكوت العالم الافتراضي، الذي يتغير خلال ثوانٍ معدودة، لكن أكثر ما يؤرقني هو تلك الحالة من “التوهان” التي بات عليها الناس وستتزايد مستقبلا، والتي تمنح الفرصة لكل من يمتلك الأدوات المناسبة، أن يتحكم في تلك العقول، ويوجهها أينما وكيفما شاء، فيتحول الناس إلى ما يشبه “الروبوتات” التي تدار عن بعد.

وبحكم عملي، أتابع كثيرا مما يجري في العالم الافتراضي، وتشغلني كثيرا أدوات صناعة ذلك العالم، وخلق ما يموج به من أفكار وصراعات. ومنذ فترة وأنا أتابع ما يسمى بصناعة “الترند”، وهي صناعة عالمية كبيرة، ولا تأتي عفو الخاطر، أو من قبيل الصدفة، والأكثر أن هناك الكثير من الشركات والمؤسسات والأجهزة تقف وراء صناعة تلك التريندات.

أنظروا إلى ما تفعله تلك “التريندات” في عقولنا كأفراد ومجتمعات، فهي تتغير على مدار الساعة، ومن يوم إلى آخر، والكثير منها يُصنع صناعة، للفت انتباه الناس إلى أمر بعينه، أو صرف انتباههم عن أمور أخرى.

ويتجاوز الأمر مجرد رغبة الأفراد في الظهور أو الشهرة بأي وسيلة أو ثمن (أزمة عامل النظافة في محل بيع الكشري مثالا)، بل إن الأمر بات تجارة رائجة لشركات تجيد استخدام أدوات صناعة “التريند”، وأجهزة تحاول أن تتلاعب بالوعي العام وتظهر رواجا زائفا لفكرة أو تيار أو توجه ما داخل مجتمع، ومن ثم تقنع جمهور المطلعين على “التريندات” أنها حقيقة وتيار غالب في المجتمع، ومن ثم يستغل صناع “التريند” مشكلتين إنسانيتين: الأولى هي الرغبة في مسايرة القطيع وعدم الابتعاد عن التيار الغالب، والثانية هي الذاكرة الهشة للأفراد والشعوب، والتي تدفعهم إلى عدم التركيز في رؤية الصورة كاملة، والاندفاع وراء ما يقدم إليهم من رواية مبتورة وأحيانا مفبركة للأحداث والقضايا.

أقول ذلك وأنا ألحظ رغبة محمومة من جانب أشخاص وجماعات على منصات التواصل الاجتماعي، لإشاعة حالة من الارتباك والقلق والاضطراب، والترويج لتريندات بعضها سياسي، والبعض الآخر يبدو اجتماعيا، لكنه يحمل في جوهره صبغة سياسية، في محاولة لصناعة حالة متوهمة عن عدم الرضا داخل المجتمع، وبالتالي بناء تريندات تخدم أهدافا مصنوعة عن عمد.

وللأسف فإنه من الواضح أن ما يُقال عن تدهور الذاكرة الفردية للبشر، يصلح أن يعمم على الذاكرة الجمعية للناس، فيبدو أن العقل الجمعي يميل إلى نسيان الماضي القريب بكل قسوته وصعوباته، ويتعامل مع الأمر على أنه صفحة طويت، ولم يكن لها تأثير على ما نعيشه اليوم!

كما بات العقل الجمعي أكثر ميلا إلى تصديق الروايات المفبركة باحترافية، والتي تعتمد على خلط الواقع بالوهم، وبالتالي ترويج أمور لا أساس لها، ومع الإلحاح والتكرار والإبراز عبر الضخ الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي، وتصعيد الحديث عن الأمر وتصويره على أنه واقع، وأنه بات أولوية لدى الناس، يتحول الأمر بالفعل إلى أولوية، وينقاد الناس وراء تلك الأجندة المصنوعة، بل والمفتعلة.

وأتذكر هنا مثالا قديما عن كيفية تأثير صناعة الكذب الاحترافي والشائعات المتعمدة، وقدرة صانعي تلك الأكاذيب على تحويلها إلى واقع، فيقال أن أحد رجال الأعمال أراد شراء مصرف ناجح بسعر بخس، وبحسب الواقع الحقيقي وموقف المصرف المالي، كان ذلك مستحيلا، فبدأ رجل الأعمال عبر شبكة محكمة من أعوانه المحترفين في بث أخبار متواترة عن تراجع الموقف المالي للمصرف، وأنه سيواجه خلال فترة وشيكة أزمة في الوفاء بمتطلبات عملائه، بل وأن المصرف سيكون عاجزا عن رد ودائع المودعين إذا طلبوها، وبالفعل بدأت تلك الأخبار الكاذبة في الزحف نحو عقول المودعين، واتجه عدد منهم إلى سحب ودائعهم سريعا قبل أن تقف الكارثة، وعندما رأى المتشككون تلك الحركة المحمومة لسحب الودائع، صدقوا ما كان متداولا من أخبار، واتجهوا أيضا لسحب ودائعهم، وكان حجم الطلب أكبر من قدرة المصرف على تلبيتها فورا، وبالفعل انهارت أسهم البنك، وبات يواجه أزمة حقيقية، واضطر مجلس الإدارة للاستقالة، فدخل رجل الأعمال إياه ليشتري أسهم البنك بالسعر الذي أراده، وأعاد استخدام آلته الدعائية مجددا، فأقنع العملاء بأن تغيير إدارة البنك على يديه كفيلة بإعادته إلى النجاح مرة أخرى، ولم يفعل الرجل شيئا سوى أن جاء بنفس الإدارة القديمة وأعادهم إلى مواقعهم، لكن الفارق الوحيد أن رجل الأعمال بات مالك البنك، وقد اشتراه في الواقع بحفنة من الأخبار الكاذبة التي صدقها الناس!!

أتمنى أن نفهم اللعبة … وألا ننساق وراء تجار الأكاذيب.

اقرأ ايضا للكاتب…

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص … كارثة  الاعتراف بـ«الدولة الموازية» !!

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..بأي حال يعود العام الدراسي الجديد؟

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..مشاهد من زمن الهذيان!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى