أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص … كارثة  الاعتراف بـ«الدولة الموازية» !!

واحدة من الظواهر التي اشتهر بها المصريون في تاريخهم الاجتماعي، قدرتهم على ابتكار مسارات بديلة عندما تُسد أمامهم آفاق المسارات الرسمية أو الشرعية.

وربما اكتسب المصريون تلك القدرة المذهلة على “التصرف” بعيدا عن أعين السلطات، عبر قرون طويلة من التعامل مع ظواهر سياسية وأنظمة حكم مختلفة، أو حتى استغلالا لغض السلطات أعينها – عمدا – عما يجري بالقرب منها، حتى صار ظاهرة أكبر من أن يتم استئصالها، فضلا عن ارتفاع تكلفة الإصلاح.

بهذا الفكر ابتكر المصريون “السوق السوداء” للمتاجرة في كل ما لا يتاح تداوله في “السوق الشرعية البيضاء”، بداية من العملات الأجنبية، وحتى السلع الغذائية والمحاصيل الزراعية.

وعندما كانت بعض السلع تنقص في الأسواق نتيجة أزمات أو حتى قرارات حمائية للاقتصاد الوطني، كانت تلك السوق السوداء تتكفل بتوفير الاحتياجات، وتلبية الطلب، وبالتالي تحقيق الربح لسلسلة من حلقات التداول في تلك السوق، من مهربين إلى ناقلين وتجار، وحتى من “مخلصين”، وهو مصطلح فضفاض يُطلق على كل من لديه قدرة على “تسليك أموره” مع المؤسسات التي كان ينبغي عليها ضبطه أو وقفه أومنعه من العمل!

وفي مواجهة تعقد الإجراءات وتشابك الجهات التي تصدر التراخيص والتصاريح للمشروعات التجارية والصناعية، والبيروقراطية المقيتة التي تغتال حلم أي راغب في تأسيس مشروع صغير بصورة شرعية، ثم عدم الوضوح في معاملته ضريبيا، وخضوعه للوغاريتمات قانونية عند مواجهته لمشكلة مع تلك المؤسسات، وجد الآلاف وربما الملايين الحل فيما بات يُعرف بمصانع “بئر السلم”، أو ما يطلق عليه تأدبا “الاقتصاد غير الرسمي”، أي الكيانات التي لا تلتزم بتصاريح أو تراخيص، ولا تخضع لرقابة، ولا تلتزم بأي شيء تجاه الدولة.

الالتزام الوحيد لمؤسسات “بئر السلم” تجده تجاه “الدولة الموازية” التي اصطنعتها طبقة موظفين فاسدين في العديد من مرافق الدولة، والتي تقدم للمخالفين كل الخدمات المطلوبة للبنية التحتية والكهرباء والمياه والخامات، والأهم أنها تقدم لهم الصمت عن ممارستهم لعملهم مقابل دفع “المعلوم” لهؤلاء الفاسدين!!

وعندما عجزت الدولة عبر عقود طويلة ماضية عن توفير المسكن الملائم بالسعر المناسب لمواطنيها، لجأ المصريون إلى حيلة “المساكن البديلة” والتي اتخذت أكثر من صورة، من بينها البناء على الأراضي الزراعية، وبناء العشوائيات على تخوم المدن الكبيرة والأحياء السكنية التي باتت مرتفعة السعر أمام موجات الهجرة الداخلية المتدفقة من الريف إلى الحضر، وصولا إلى البناء في أي مكان حتى ولو كانت هناك خطورة داهمة جراء هذا البناء، مثل إقامة المساكن في مخرات السيول، أو على حواف مناطق صخرية هشة، أو تحت أسلاك الضغط العالي، أو إلى جوار قضبان السكك الحديدية.

استفاد ملايين المصريين من قرار الدولة الرسمية خلال تلك السنوات من غض الطرف عن تلك الممارسات، ولا أحد يعرف مَن الذي استغل مَن في تلك الفترة، هل استغل المواطنون الراغبون في الحصول على مسكن رخيص مهما كان مخالفا لكل القوانين وقواعد التخطيط العمراني والمعايير الإنشائية، ذلك الفساد المستشري في أجهزة محلية كان واجبها الأول والأهم منع ظهور تلك العشوائيات والعمل على مواجهتها في مهدها؟ أم أن تلك الطبقة الفاسدة في الأجهزة المحلية هي التي استغلت رغبة الملايين في الحصول على مسكن رخيص، وتراخي قبضة الدولة، في الحصول على نهر من الأموال الحرام لكي تتغافل عن ذلك السرطان الذي ينتشر ويستفحل في كل مكان ويتحول إلى “غول” حقيقي يلتهم ليس فقط  أجود الأراضي الزراعية، بل ويغتال معه كل قواعد احترام وتطبيق القانون، وتتآكل بسببه كثير من القيم الاجتماعية والإنسانية التي كافح هذا المجتمع قرونا كي يبنيها وكافح أكثر كي يحافظ عليها.

وهكذا أدى التواطؤ بين مواطنين لا يفكرون سوى في مصلحتهم الذاتية – ولا يمكن أن تحملهم وحدهم المسئولية لأنهم لم يجدوا البديل المناسب فيتبعوه- وبين طبقة فاسدة في أجهزة الدولة، بحثت هي الأخرى عن مصادر “بديلة” لتمويل نفسها بعيدا عن أعين الدولة ورقابتها، بل إن تلك الطبقة الفاسدة كانت في كثير من الأحيان تضع العراقيل البيروقراطية وتصطنع العقبات التي تجعل من الطريق الشرعي الرسمي مسألة عسيرة، بينما الطرق الأخرى التي تمر عبر جيوبهم أمرا ميسورا سهلا ناجزا!!

وعندما تراجعت قدرة الدولة على تقديم تعليم مناسب في مدارسها “الرسمية”، وشعر المدرس بأنه لا يلقى التقدير المادي ولا المعنوي المناسب، بدأت فكرة المسارات الموازية تطل برأسها من جديد، فالمدرسون لن يأكلوا أو يشربوا من “قم للمعلم وفه التبجيلا”، ولن تسدد عنهم “كاد المعلم أن يكون رسولا” فواتير آخر الشهر!!

والطالب الذي يجلس (إن وجد مكانا للجلوس) في فصل به بضع عشرات من التلاميذ، لن تتاح له الفرصة الكافية للفهم والاستيعاب وسط هذا الزحام، وبالتالي تلاقت المصالح وفعلت قاعدة “العرض والطلب” فعلها، فبدأت تظهر الدروس الخصوصية، ومن ثم المجموعات، مرورا بتقيدم مجموعات دراسية كعمل خيري فوق أسطح المساجد وفي الكنائس، وصولا إلى ظاهرة “السناتر”، التي رسخت أقدامها كمشروعات تجارية مربحة، وأثبتت قدرتها على أن تكون مسارا موازيا للتعليم الذي تنفق عليه الدولة عشرات المليارات سنويا، وينفق أولياء الأمور مئات المليارات في المقابل على ذلك التعليم الموازي!!

في كل الحالات السابقة، ورغم ذلك الواقع المرير، إلا أن عدم اعتراف الدولة بتلك الممارسات، كان ورقة ضغط مهمة في النظر إلى كل تلك الممارسات كأفعال مخالفة للقانون، واليوم عندما تحاول الدولة أن تعيد بناء قدراتها، وتسعى إلى تجاوز تراكمات الماضي بكل صعوباته، نجدها تحاول الإصلاح بشكل يلتزم أولا بالقانون، فالدولة لم تعترف بالبناء على الأرض الزراعية بل جرمته، ومع ذلك استثمرت مئات المليارات من الجنيهات في توفير مساكن بديلة آمنة،  ومنحت من لا يستطيع دفع المقابل في المناطق الخطرة، تلك المساكن مجانا تحقيقا لدورها الاجتماعي الذي لا غنى عنه.

وعندما سعت الدولة في السنوات الأخيرة إلى اجتذاب القطاع غير الرسمي، لم تقدم له صكا على بياض يعترف بشرعيته، بل ربطت ذلك بمجموعة من الإجراءات والحوافز التي تشجع هذا القطاع على الانضمام للقطاع الرسمي، مع تشديد حملات الرقابة والضبط.

وعندما أدركت الدولة خطورة السوق السوداء، حاولت بأساليب مختلفة القضاء على تجارة العملة بصورة غير شرعية، فضلا عن محاصرة المتاجرين والمحتكرين لأقوات الناس، صحيح أن هؤلاء يجدون أحيانا ثغرات تعينهم على الإفلات، إلا أن عدم اعتراف الدولة بهم يبقى ورقة مهمة للضغط عليهم واستمرار ملاحقتهم.

وعندما نأتي إلى قضية التعليم، فيجب أن يكون موقف الدولة أكثر تشددا إزاء عدم الاعتراف بالتعليم الموازي، وأقصد هنا “السناتر” ومراكز الدروس الخصوصية المنتشرة في كل مكان، فالاعتراف بتلك المراكز ومنحها ترخيصا – كما تنوي وزارة التربية والتعليم- لا يمثل فقط إهدارا لقيمة أن تكون الدولة المسئول الأول عن التعليم باعتباره واحد من أهم وظائف الدولة لحماية أمنها القومي وتماسكها الاجتماعي، بل إنه سيزيد ويضاعف أعداد تلك المراكز، والأخطر أنه سيعمق دورها وتأثيرها، بعدما صارت شرعية وقانونية.

ما تنوي وزارة التربية والتعليم الإقدام عليه بترخيص مراكز الدروس الخصوصية – في تقديري- لا يخالف فقط مسار الدولة في استعادة قوتها وإحكام قبضتها على مختلف المرافق التي تضررت من تراجع حضورها على مدى عقود طويلة ماضية، بل سيكون إقرارا غير مقبول بهزيمة الدولة أمام “السناتر” في ميدان لا نحتمل فيه الهزيمة، وهو التعليم.

أتمنى أن تراجع  (وتتراجع) وزارة التربية والتعليم عن فكرة ترخيص “السناتر”، وإلا فما جدوى تكبيد الموازنة العامة للدولة عشرات المليارات سنويا للإنفاق على المدارس، فلنؤجرها مفروشة لمراكز الدروس الخصوصية، وعلى التعليم السلام!!

اقرأ ايضا للكاتب…

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (4) … إصلاح البحث العلمي

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (3) … إصلاح التعليم

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .. هوامش على دفتر الإصلاح (1).. الإصلاح السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى