أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (3) … إصلاح التعليم

بالتأكيد لا أحتاج إلى مقدمة أبرر به أهمية إصلاح التعليم كمرتكز أساسي لأي إصلاح، فالجميع من رأس الدولة إلى أصغر مواطن فيها يعرف ذلك ويوقن به.
وأي قارئ لتاريخنا أو لتاريخ العالم، سيدرك بغير عناء أن التعليم كان دائما البداية الصحيحة لأي إصلاح بعيد المدى، ويكفي النظر إلى تجربتنا المصرية، فمحمد علي باشا عندما أراد بناء دولة حقيقية تتجاوز عصور الظلام العثمانية، لم يجد أفضل من التعليم ليبني به إمبراطوريته القوية، واليابان درست التجربة وكررتها، وكذلك استنسختها ماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرهم.
ولا داعي لأن أهدر هذه المساحة في شرح أهمية التعليم في بناء الدول والاقتصاديات العالمية، فشركة واحدة مثل “أبل” بالعلم والتكنولوجيا تفوق قيمتها السوقية، قيمة اقتصاديات كل الدولة العربية مجتمعة، بما فيها دول الخليج بكل ثرواتها النفطية الهائلة!!
التعليم إذن هو دائما البداية الصحيحة، لكن السؤال الحقيقي ليس لماذا، بل كيف؟
وهنا يكمن الشيطان في التفاصيل، فأرفف المكتبات مليئة بالدراسات التي تتحدث عن إصلاح التعليم، بكل مكوناته المدرسة والمدرس والمنهج وأسلوب التدريس، ودهاليز وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي تكاد تضيقبالتقارير والتوصيات والأفكار والتجارب الناجحة والفاشلة على حد سواء والتي تحمل جميعا شعارا براقا، لا يزال “يزغلل” أعيننا جميعا وهو تطوير التعليم!
أين المشكلة إذن؟
المشكلة تكمن في غياب الإرادة المجتمعية في إحداث إصلاح حقيقي وشامل في التعليم، فكل أولياء الأمور يشكون من خطر الدروس الخصوصية، لكنهم ليسوا على استعداد لمساندة أي تجربة حقيقية للتصدي لها، وهناك من الوقائع الكثير التي تثبت ذلك!!
والجميع يتحدث عن ضرورة إصلاح التعليم وافتقار منظومتنا للقيم التربوية قبل التعليمية، لكن الكثير من هذا “الجميع” لا يتوانى عن قبول الغش والدفاع عنه، بل والتعدي على من يمنع هذا الغش، وأيضا الوقائع في هذا الشأنأكثر من أن تُحصى.
والمعلمون – إلا من رحم ربي- يتباكون على ضياع قيمة المعلم، ويدافعون بحماس بالغ عن ضرورة الإصلاح واستعادة مكانة المعلم كمربي للأجيال، لكنهم في الوقت ذاته لا يتورعون عن إسكات ضمائرهم، وهم يشرحون بذمتين، واحدة للمدرسة، وأخرى مختلفة تماما في “السناتر” والدروس الخصوصية، والكثير من هؤلاء لا يجد غضاضة في أن يكون رصيد قيمة المعلم المعنوية بالسلب، طالما كانت قيمة عائداته المادية دائما بالإيجاب!!
وحتى وزارة التربية والتعليم، التي ينبغي أن تقود تجربة الإصلاح وتبدأ بنفسها، لا تتورع عن استخدام أساليب غير علمية، وتجارب غير مدروسة تحت شعار الإصلاح والتطوير، وعندما تفشل التجربة، تخرج علينا بمبررات واهية، وتطلق تجربة أخرى لا تختلف عن سابقاتها، فتتلاشى الثقة، ويتحسس أولياء الأمور رؤوسهم وجيوبهم عندما تردد الوزارة هذاالشعار!!
والأمر لا يختلف كثيرا في المستويات التعليمية العليا، أي في الجامعات، فالأرقام دائما لا تكذب، والأوراق دائما “متستفة” للرد والتأكيد أننا نسير على الطريق الصحيح، مع أن الجميع بات يدرك أن التعليم الجامعي الآن صار مرهونا بمن يستطيع الدفع، وأن الحصول على فرصة تعليم حقيقية تتكلف مئات الآلاف من الجنيهات، فمدرجات الجامعات الحكومية تتكدس بآلاف الطلاب، والجامعات الخاصة، الكثير منها يبيع الوهم ويخرج طلابا يحملون درجات البكالوريوس والليسانس وهم لا يجيدون القراءة والكتابة!! بينما القلة من الجامعات التي تقدم فرصا حقيقيا للتعليم، تتجاوز مصروفاتها الأصفار الخمسة!!
المشكلة الأكبر – من وجهة نظري- أن الإصلاح الحقيقي في مجال التعليم يتطلب قرارات جريئة وحاسمة، يخشى الجميع اتخاذها والإقدام عليها، وهنا أتحدث عن بعض الأفكار التي تحتمل النقاش والتفكير المتعمق، بعيدا عن المخاوف التقليدية والشعارات الجامدة.
وأول القرارات الجريئة التي يجب أن نفكر فيها ونحن نعيد طرح الكثير من مشاكلنا على طاولة البحث والحوار المجتمعي، هي التخلي عن فكرة مجانية التعليم للجميع، فعلاوة على أن تلك الفكرة لم يتبق منها سوى الشعار فقط، إلا أنها تمثل قيدا على الكثير من أفكار التطوير.. فالتعليم الأساسي حتى نهاية المرحلة الإعدادية يجب أن يكون بالفعل مجانيا ويدرس به جميع الطلاب منهجا موحدا بنسبة لا تقل عن 80% حتى يمكن بناء المهارات الأساسية والقاعدة الفكرية التي يقوم عليها بناء الإنسان المصري.
هذه المرحلة التأسيسية يجب أن تكون كافية لاكتشاف قدرات الطالب الحقيقية ومواهبه التي تحدد مساره التعليمي المستقبلي، بحيث يتم توجيه الغالبية العظمى من الطلاب إلى مدارس ثانوية نوعية، فنية وتجارية وتكنولوجية ورياضية وصناعية وزراعية وغير ذلك من التخصصات التي يحتاجها سوق العمل ويقتضيها بناء الأوطان، وتتبقى نسبة لا تزيد عن 20-30% من الطلاب المتفوقين وأصحاب القدرات العلمية المتميزة، هؤلاء هم من يستحقون بالفعل المجانية الكاملة، لكنها مجانية حقيقية، فالمبالغ التي تُصرف على ملايين دون تقديم تعليم حقيقي، يمكن مع تخفيض أعداد المستفيدين زيادة جودة الخدمة المقدمة، وبالتالي إحداث الفارق.
أما بقية المدارس المتخصصة والتي تستوعب النسبة الأكبر من الطلاب، فيتم رعايتها بالتعاون مع القطاع الصناعي، ويدفع أولياء الأمور نسبة من المصروفات، في مقابل أن يحصل أبناؤهم على خدمة تعليمية عالية الجودةترحمهم من الإنفاق الهائل على الدروس الخصوصية، كما تكفل صقل مهارات الأبناء ومواهبهم، ودون الإثقال عليهم بمواد دراسية غير مؤهلين لدراستها ولا تناسب قدراتهم ومواهبهم.
كما يجب أن تكون شهادة إتمام الدراسة الثانوية، شهادة معترف بها للالتحاق بسوق العمل، وبحيث يمكن استيعاب النسبة الغالبة من الخريجين مباشرة، بينما يواصل المتفوقون فقط، والذين يجب إخضاعهم لاختبارات قبول حقيقية، وليست شكلية أو تغلب عليها المجاملات، لتحديد مسارهم ومصيرهم في استكمال التعليم الجامعيوفق معايير دولية صارمة.. فالتعليم الجامعي لا يجب أن يكون متاحا للجميع، فهذا المستوى من التعليم يحتاج إلى قدرات علمية فائقة، وبالتالي فإن المطلوب هو ارتقاء الطالب ليكون جديرا بدراسة هذا المستوى المتقدم من العلم، وليس العكس – وهو ما يحدث حاليا في كثير من الأحيان- وهو النزول بجودة التعليم لتناسب المستوى المتواضع لنسبة غير قليلة من الملتحقين بالتعليم الجامعي.
والمستوى الذي ينبغي أن يتم تقديمه في الجامعات هو المستوى الذي تتبناه الجامعات العشرين الأول في العالم، حتى يكون المنتج التعليمي لدينا قادر على المنافسة العالمية، ومواكبا لأعلى معايير سوق العمل، فهل من المعقول أن تضم الدفعة الواحدة في إحدى الكليات أكثر من 20 ألف طالب، دون أن يحصلوا على الحد الأدنى من المهارات الحقيقية التي تؤهلهم للعمل، فتكون النتيجة أن ينضم هؤلاء بعد حصولهم على درجة البكالوريوس إلى طابور العاطلين، أو يضطروا للعمل في أي مجال آخر بحثا عن لقمة العيش، ويكفينا عجبا أن أعلى معدلات البطالة في بلادنا هي بطالة الجامعيين!!
تجربة الجامعات الخاصة أيضا تحتاج إلى إعادة نظر حقيقية وواقعية، فالكثير منها تحول إلى مشروعات تجارية لا تستهدف سوى تخريج الآلاف واستنزاف جيوب أولياء الأمور دون تقديم خدمة تعليمية حقيقية، والجامعات الحكومية تنهش ميزانياتها الأعداد الهائلة والفرص المحدودة، فتكون النتيجة في كلا الحالين مآساة لا نهاية لها.
وأعتقد أن أحد الحلول لمواجهة هذا الأزمة هي تنظيم اختبارات قومية في مجال التخصص في مرحلة البكالوريوس،تشرف عليهاهيئة موحدة لضمان جودة التعليم تتبع رئاسة الجمهورية مباشرة، ويضع أسئلتها أكاديميون وخبراء مهنيون من مجال التخصص،ويخوضها كل خريجي هذا المجال أيا كانت الجامعة التي يدرس بها، حكومية أو خاصة أو دولية، ولا يتخرج هذا الطالب إلا بعد اجتياز هذا الاختبار الشامل، ولا يحق له العمل إلا بعد الحصول على تقدير معين في كل الاختبارات التي يقتضيها تخصصه.
ولا ينبغي أيضا أن يكون الاستثمار في التعليم عبئا على الدولة وحدها، بل يجب أن يكون استثمارا مجتمعيا، بحيث يكون لمؤسسات المجتمع المدني دور واضح، وفي القلب منها الغرف الصناعية والتجارية واتحادات المستثمرين، فهم مستفيدون من ارتقاء التعليم وتحسن مستوى المنتج التعليمي بكل الفروع، كما يمكن أن تكون هناك حوافز مجزية لمن يشاركون في رعاية المؤسسات التعليمية، أو تقديم منح دراسية للمتفوقين، وهو نظام معروف في كل أنحاء العالم.
هذه بعض الأفكار لإصلاح التعليم .. وللحديث بقية.

اقرأ ايضا للكاتب

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .. هوامش على دفتر الإصلاح (1).. الإصلاح السياسي

 أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هل نحن جيل «منحوس»؟!

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .. خطايا كهنة «السوشيال ميديا»!!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى