أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (4) … إصلاح البحث العلمي

عندما تابعت “المناحة” التي أطلقها البعض على وسائل التواصل الاجتماعي حزنا أو غضبا من قرار لاعب الاسكواش محمد الشوربجي بالتخلي عن اللعب باسم مصر، وأن يخوض المنافسات الدولية تحت العلم البريطاني، انتابتني حالة من “الغم”، بالتأكيد ليس حزنا على “تجنيس” لاعب الاسكواش، ولكن غضبا وحسرةلأننا صرنا نهدر طاقتنا ونشغل عقولنا بما لا يستحق، بينما يتلاشى من أولوياتنا ما يستحق فعلا أن ننشغل به!!
فبينما يتباكى “السوشيالجية” على لاعب الاسكواش، لم يتذكر أحد خسارتنا لنحو 12 ألف طبيب اختاروا الهجرة والخروج من مصر خلال السنوات الثلاث الماضية، وقبلهم ما يزيد عن مليون من العلماء والباحثين والخبراء، الذين سافروا على مدى سنوات طويلا بحثا عن الأمان المادي والتقدير المعنوي الذي لم يجدوه في وطنهم الأم!!
منذ عدة أشهر انشغلت بالتحضير لدراسة حول هجرة العقول من مصر، وسبل الاستفادة من تلك العقول في ضوء الخبرة الدولية لدول مشابهة لحالنا في مصر، واخترت تحديدا الصين والهند، وخلال التحضير لتلك الدراسة، التي نُشرت بالفعل في العدد الأخير من مجلة “الديمقراطية”، هالتني الأرقام التي خسرناها من أنبه العقول، فمصر وبحسب مؤشر هجرة الأدمغة الصادر عن البنك الدولي ، جاءت في صدارة الدول العربية الثماني التي تصدرت طليعة البلدان الطاردة للعقول المُبدعة وهي: مصر وسوريا ولبنان والعراق والأردن وتونس والمغرب والجزائر.
ويسهم الوطن العربي بنحو 31% من مجموع الكفاءات والعقول التي تهاجر من البلدان النامية نحو الأقطار الغربية. كما أن نحو 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء العرب يفضلون الهجرة على البقاء في بلدان المنشأ العربية!!
وتأتي مصر في مقدمة الدول المصدرة للعقول إلى الخارج، خاصة إلى كندا والولايات المتحدة وألمانيا، وطبقا لبيانات اتحاد المصريين بالخارج، فإن تعداد علماء وأكاديميي مصر المقيمين بالخارج، يبلغ نحو 86 ألف عالم وأكاديمي، منهم 1883 في تخصصات نووية نادرة، كما يضمون 42 رئيس جامعة حول العالم.

ويشير تقرير صادر عن أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في عام 2015 إلى أن أكثر من 450 ألف مصري من أصحاب الشهادات العليا اتجهوا نحو الغرب خلال الخمسين سنة الأخيرة. وأصبح ستمائة من بين هؤلاء المُبدعين المصريين المهاجرين من أبرز العلماء المتألقين في الغرب في اختصاصات دقيقة ونادرة من قبيل عِلم الفضاء، والنانو تكنولوجيا، وعلوم البِحار، والهندسة المعمارية الصديقة للبيئة، وفاز العديد منهم بجوائز علامية مرموقة باسم بلدان مهجرهم، من بينها جائزة “نوبل”!
في المقابل تشير تقارير وزارة القوى العاملة والهجرة إلى أن أعداد المصريين المهاجرين فى الولايات المتحدة تصل إلى 635 ألفًا، وفى كندا 141 ألفًا، وإيطاليا 210 آلاف، وسويسرا 12 ألفًا، واليونان 50 ألفًا، وفرنسا 70 ألفًا، وبريطانيا نحو 75 ألفًا، وتتضمن هذه الأرقام العديد من الفئات فى مهن وتخصصات حرجة واستراتيجية، مثل الجراحات الدقيقة، الطب النووى والعلاج بالإشعاع، والهندسة الإلكترونية والميكروإلكترونية، والهندسة النووية، وعلوم الليزر، وتكنولوجيا الأنسجة، والفيزياء النووية، وعلوم الفضاء، والمكروبيولوجيا، والنانو تكنولوجيا، والهندسة الوراثية، بالإضافة إلى وجود علماء متخصصين فى العلوم الإنسانية.

بالتأكيد كنت أستشعر بالحزن والحسرة على خسارتنا لتلك النخبة من العقول في تخصصات كانت كفيلة بإحداث نقلة حقيقية في تنمية مجتمعنا، لكن في المقابل كانت أصوات كثيرة تنهش عقلي، وتطرح سؤالا مُرا: وهل كان يمكن لهؤلاء أن يحققوا شيئا لو ظلوا يدورون في دائرة البيروقراطية القبيحة، ويعانون عدم التقدير المادي والمعنوي للعلماء، في مقابل استحواذ فئات أخرى أقل تأهيلا وقيمة علمية مثل المطربين والراقصات ولاعبي الكرة على التقدير المادي والمعنوى من المجتمع؟؟!
لا أخفيكم سرا أنني صرت أكثر تفهما لقرار كثير من هؤلاء الذين اختاروا الهجرة، فكثيرون انتفضوا اعتراضا وتقريعا للاعب الاسكواش الشوربجي، أو حتى انتقادا للمؤسسات الرسمية والرياضية التي لم تبذل جهدا حقيقيا في الحفاظ على اللاعب، بينما لم نسمع صوتا يبدي الحسرة على خسارتنا لنحو 11 ألفاً و536 طبيباً استقالوا منذ أول 2019 وحتى 20 مارس 2022، بحسب تقرير حديث لنقابة الأطباء، ففي عام 2016 كان عدد المستقيلين من الأطباء 1044 طبيباً، وفي عام 2017 كان العدد 2549 ، وعام 2018 بلغ عدد الأطباء المستقيلين 2612 طبيباً، وشهد عام 2019 استقالة 3507 أطباء، وفي عام 2020 استقال 2968 ، أما عام 2021 فكان العدد الأكبر من المستقيلين من العمل الحكومي، وبلغ 4127 “.

وبالطبع يمكنكم بسهولة ملاحظة ارتفاع وتيرة أرقام النزيف مع تصاعد أزمة كورونا، واتجاه العديد من الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واستراليا إلى تعويض النقص الحاد لديها في الكوادر الصحية من خلال استقطاب تلك الكوادر من الدول المصدرة للعقول.

وبالمناسبة فإن هذه الأزمة لا تقتصر علينا فقط، بل تواجه دول مثل الجزائر والعراق وحتى كينيا نفس الموقف، لكن الأعداد الخارجة من مصر هي الأكبر، وبحسب دراسة دولية أجريت في هذا الشأن فإن الدول الطاردة للكوادر الطبية (وهي من الدول الفقيرة أو النامية) تخسر ما يزيد عن نصف مليون دولار أنفقتهاعلى عمليات التعليم والتأهيل والتدريب مع كل طبيب أو طبيبة يقررون الهجرة!

هذا فضلا عن الخسارة الأكبر وهي تضرر المنظومة الصحية في البلاد التي تعاني نزيفا في كوادرها،فقطاع الصحة يعاني بالأساس نقصاً في الكوادر الطبية (معدل الأطباء في مصر 8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، أي طبيب لكل 800 مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن)!!

اهتمام المجتمع، أو على الأقل الشريحة النشطة فيه، بأزمة تجنيس اللاعبين، أو صراعات الفنانيين ولاعبي الكرة وأنديتها، إنما يعكس بصورة أو بأخرى طبيعة تشكيل الأولويات داخل المجتمع، وهذا في تقديري صلب المشكلة الحقيقية، فمئات الآلاف من خيرة العقول المصرية الذين اختاروا الهجرة، لم يتخذوا قرارهم لأسباب اقتصادية وحسب، بل لأنهم يشعرون بأن مكانتهم وقيمتهم في المجتمع تتدنى وتتراجع، وأنه لا سبيل لتحقيق أحلامهم المستقبلية في مجتمع ينفق ثروته ويمنح تقديره لنماذج لا تقدم أية قيمة، بينما العلماء والمثقفون والمتفوقون ينحتون في الصخر من أجل الوفاء بأبسط احتياجاتهم الإنسانية!!
هذه الحقائق يعلمها الجميع، وموثقة في عشرات الدراسات التي تقصت أسباب هجرة العقول المصرية والعربية، وكانت إحساس تلك العقول بعدم التقدير، فضلا عن ضعف البنية العلمية وغياب العلم من على سلم الأولويات أحد أبرز الأسباب الدافعة لاتخاذ قرار الرحيل.

الأمر في تقديري لا يمكن أن نختذله في مجرد قررات فردية، أو رغبة من فئة متميزة تريد أن تشعر بثمرة تميزها، وتذهب لمن يمنحها التقدير، لكن القضية ترقى لأن تكون مسألة أمن قومي، فعندما نلاحظ حجم النمو الذي تحققه الدول المستفيدة من هجرة العلماء في مقابل التجريف المتعمد لمجتمعاتنا العربية من كوادرها وعقولها، نكتشف أن الأمر أكبر من مجرد طموح شخصي!
ولنتذكر كيف كانت المفارقة الصارخة والمهينة بين حال الدول العربية – ومنها مصر بطبيعة الحال- وبين دولة الكيان الصهيوني عقب انهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي،عندما اقتنصت إسرائيل خيرة عقول الإمبراطورية المنهارة،بينما فتح الوطن العربي أبوابه على مصراعيها لراقصات “الشو الروسي”!!
فمنذ أواسط عام 1989 إلى نهاية عام 1991 استقطبت إسرائيل مهاجرين من دول الاتحاد السوفيتي السابق بينهم 10 آلاف عالم و87 ألف مهندس و45 ألف هندسي تقني، و38 ألف معلم، و21 ألف طبيب، و18 ألفًا من رجال الفن، و20 ألف أكاديمي في العلوم الاجتماعية، وأن 20% من المهاجرين الجدد من حملة الشهادات العلمية في مجالات الهندسة والفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا، وحقق احتضان واستقطاب إسرائيل للكفاءات العلمية مصالحها القومية ومنحها هذا التطور الكبير والهيمنة المطلقة في مجال تكنولوجيا المعلومات على سبيل المثال لا الحصر!!في المقابل كان العالم العربي قد فقدحتى عام 2000، حوالي مليون من كفاءاته العلمية، واستمر التراجع الحضاري على كل المستويات!!
الأزمة كذلك لم تعد تقتصر على موجات نزيف العقول إلى الدول الغربية، بل صارت الدول العربية وبخاصة دول الخليج بما تقدمه من عروض مغرية ماديا وبمنح الإقامات الممتدة للكفاءات، منافسا قويا، ويكفي أن نتأمل نتائج أحدث نسخة من مؤشر «نيتشر» لعام 2021، وهو تصنيف لما يزيد على 10 آلاف منظمة بحثية عالمية، كي ندرك أن الأمر لم يعد ماديا فقط، بل علميا أيضا، فقد وضع هذا المؤشر السعودية في المتربة الأولى عربيا و29 عالميا، تلتها الإمارات في المرتبة الثانية عربية و44 عالميا، بينما جاءت مصر ثالثا على المستوى العربي، وخارج تصنيف الـ 50 دولة عالميا التي يشملها التصنيف!
كما تتفوق علينا العديد من الدول المجاورة العربية وغير العربية في مؤشر المعرفة العالمي الصادر عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ففي آخر تقرير، والصادر في ديسمبر 2021، تأتي مصر في المرتبة 53 عالميا ، تسبقنا الإمارات في المرتبة 11، وإسرائيل 18، قطر 38، السعودية 40، الكويت 48، عُمان 52!
وفي مؤشر البحث والتطوير والابتكار جاءت مصر في المرتبة 68 عالميا، تسبقنا كل من إسرائيل (الثالثة عالميا)، والإمارات وقطر والسعودية ولبنان وإيران!!
الأمر إذن أخطر من أن يترك بدون نقاش حقيقي وجاد وصريح لواقعنا وأسباب التراجع الواضح في المجال التعليمي والعلمي.. أتمنى أن ندرك خطورة الموقف قبل فوات الأوان.. فكل لحظة يستمر فيها نزيف العقول، نخسر حجرا مهما في بناء مستقبلنا!!

اقرأ ايضا للكاتب

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (3)  إصلاح التعليم

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .. هوامش على دفتر الإصلاح (1).. الإصلاح السياسي

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص .. هوامش على دفتر الإصلاح (1).. الإصلاح السياسي

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى