أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ ” الموقع ” خارج النص .. بأي ذنب “انتحروا”؟!

ذات يوم كنت متوجها لإلقاء محاضرة لطلاب كلية الإعلام بجامعة القاهرة العريقة التي عشت في رحابها أجمل سنوات العمر.. تعودت منذ كنت طالبا أن أستمع إلى أصوات الطلاب المتداخلة ينبعث صاخبا كطنين النحل من قاعة المحاضرة، ثم يخيم الصمت فجأة مع دخول المحاضر، إيذانا ببدء المحاضرة.

في ذلك اليوم اقتربت من قاعة المحاضرة، دون أن يتسلل إلى مسامعي ذلك الطنين المعتاد.. هدوء عميق يخيم على كل شيء، لوهلة تشككت في أن تلكالقاعة ليست المخصصة لمحاضرتي، فالمفترض أن عدد الطلاب لا يقل عن 80 طالب، وأحيانا يزيد، لكنها هي ذاتها القاعة.

راودتني الهواجس بأن يكون الطلاب قد غابوا عن المحاضرة لسبب ما، أو أن الموعد لا يزال مبكرا، نظرت في ساعتي فوجدت موعد المحاضرة قد حان منذ 5 دقائق، وبالطبع لا أتصور أن يكون طلابي وكل الطلاب تقريبا بتلك العقلانية والرصانة التي تجعلهم يلتزمون الصمت بهذه الصورة في غيبة “الدكتور”!!

ما السر إذن؟؟

لم أجد سوى الدخول إلى قاعة المحاضرة لاكتشاف غموض الموقف، وبالفعل دخلت القاعة، لأجد جميع الصفوف متراصة ومكتملة العدد، لكن لا صوت ولا حركة تصدر عن أي منهم،  فكل واحد منهم قد أحنى رأسه، وتسمرت عيناه في شاشة هاتفه المحمول، وبالطبع كل منهم كان غارقا في متابعة صفحات التواصل الاجتماعي، وبعضهم يضع السماعات في أذنيه ليغيب كليا عن محيطه المجاور.

لا أخفيكم سرا، أزعجني ذلك المشهد، ولم تسرني تلك الحالة من العزلة الاختيارية التي تواطأ الجميع وتشاركوها دونما اتفاق، فحتى أحاديث “الرغي” و”الدردشة” التي نتبادلها مع رفاق الدراسة أو العمل، أو حتى مع من لا نعرفهم في مواقف اجتماعية مختلفة، تمثل متنفسا لصحتنا النفسية، وقدرتنا على تحمل ضغوط الحياة، ولا تزال تلك الأحاديث الجانبية مع الزملاء والأصدقاء هي الرصيد الذي نستعيد به ومعه أجمل الذكريات.

أشفقتُ على ذلك الجيل الذي وضعته متغيرات العصر في مواجهة الحياة وحيدا، وقررتُ أن أخصص دقائق من تلك المحاضرة لتبادل الحديث مع طلابي بعيدا عن تفاصيل المادة العلمية التي يدرسونها، قررتُ أن أستمع إليهم وأتحدث معهم كإنسان وأخ أكبر، وليس كأستاذ أو محاضر، وأزعم أن تلك الدقائق تركت أطيب الأثر في نفوسنا جميعا.

اليوم .. عندما أقرأ أو أسمع بوقوع حادث انتحار لشاب، يتملكني أسف وأسى على تلك الروح الهائمة التي لم تجد من يحتويها، تلك النفس التي تاهت منا في دروب الحياة، وسقطت في ظلمة اليأس، ولم ينتبه أحد لعلامات ومؤشرات عديدة كان يمكن أن تكون بمثابة ضوء أحمر ينبهنا لتلك المآساة القادمة.

لا أريد أن أكرر معلومات وإحصاءات جافة أراها لا تعبر بأي حال عن المآساة، فكما يشير القول المأثور فإن “مليون ضحية مجرد رقم، بينما قصة إنسانية لحالة واحدة يمكن أن تشكل مآساة”، وأعتقد أن آخر ما نحتاجه عند التعامل مع قضية الانتحار، وبخاصة بين الشباب، هو تلك النظرة الرقمية، أو الروح الاستعلائية التي ينظر بها البعض إلى ذلك الفعل، فيختذلونه في كونه “كفر” أو “يأس من الحياة”، وربما لو فهمنا الأمر بنظرة أكثر إنسانية ورؤية أشملوأعمق لساعدنا ضحايا مستقبليين من مواجهة نفس المصير.

ولا أعتقد أن الحل يكمن في أن يغسل الكثيرون أيديهم من المسئولية، بتقديم أولئك المنتحرين على أنهم “كفار” وأن “مصيرهم النار”، فتلك أمور مردها إلى الله تعالى، والخوض فيها يشتت القضية ويبعدنا عن مناقشة جوهرها.

والخطاب الديني الذي اكتفى بالتركيز على “تكفير” المنتحر، وتحميله وزر قتل نفسه، كان من الأجدى أن يحاسب نفسه على التقصير المرتكب، وعدم قدرته على التواصل مع تلك الفئات التي “ضلت الطريق” من وجهة نظره وبخاصة من الشباب، بخطاب عصري جذاب، يساعدهم في بناء وازع ديني قوي يحول دون انجرافهم وراء مشاعر اليأس من الحياة، والاستسلام لفكرة قتل النفس!

عندما تتأمل قصص أولئك الشباب من المنتحرين، لا بد ستجد قاسما يكاد أن يكون مشتركا ورابطا بين معظم الحالات، إنه فقدان التواصل، وغياب الاحتواء، سواء كان ذلك في محيط الأسرة، أو الأصدقاء، أو العمل.

ويضاعف من أزمة فقدان التواصل تلك تنامي ضغوط الحياة التي باتت تفرض حول كل منا سياجا منيعا يحاصرنا ويبعدنا عن التفاعل مع ما ومن حولنا، فالكل يلهث وراء محاولة توفير متطلبات الحياة، يعمل لساعات طويلة، يكافح من أجل الوفاء بثورة تطلعات لا تشبع ولا تنتهي.

وفي غمرة ذلك اللهاث، ينشغل المرء عن نفسه وعن أفراد أسرته ومحيطه العائلي، فيضل وسط ذلك الزحام والصخب عن أولويات حياته، إلى أن يفيق على مصيبة تجعله يدرك زيف ما كان يسعى إليه وفداحة ما فقده!

لا أريد أن أرتدي ثياب الواعظين، فكلنا في الهم سواء، لكنني أعتقد أن أولادنا بحاجة إلى وجودنا إلى جوارهم بدرجة تفوق حاجتهم لرفاهيات لا تسمن ولا تغني من جوع عاطفي يقودهم إلى دروب الاغتراب والعزلة والاكتئاب.

أولادنا بحاجة إلى تلك “اللمة” حول مائدة الطعام، أكثر من الطعام نفسه، يتطلعون لنصائحنا ومشاركتنا لمشاكلهم أكثر من تطلعهم لهدايانا الفارهة.

زمانهم أقسى وأصعب من أن نتركهم يخوضون تحدياته وحدهم بغير سند ولا مرشد أمين، حتى وإن بدا انهم يضيقون بنصائحنا أحيانا، لكن تأكد أن تمردهم المزعوم، ليس سوى إشارة إلى المزيد من الدعم والمساندة.

المنتحر ضحية قبل أن يتحول إلى جانٍ بحق نفسه أولا وأخيرا، وعلينا إذا أردنا أن نبدأ مواجهة حقيقية لتلك الأزمة، أن نكون صرحاء لأقصى درجة ممكنة مع النفس. يجب ألا ندينهم قبل أن نحاول تفهم ما دفعهم إلى حافة الهاوية، أن نستمع إليهم قبل أن نفقدهم، أن نرحمهم قبل أن نهاجمهم، أن نسأل أنفسنا في البيت وفي المدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة وفي محيط العائلة والأصدقاء: كيف تركنا أولئك المساكين يسقطون من بيننا؟ كيف تجاهلنا ضعفهم ومضى كل منا في طريقه، وعندما سقطوا من بيننا ذرفنا بعض الدمع، وتشدقنا بكلمات الحسرة، وبعضنا غسل يديه من دمائهم بتحميلهم مسئولية قتل أنفسهم بل و”تكفيرهم”، ثم مضى الجميع إلى حال سبيله، في انتظار المزيد من الضحايا.

لن أعيد على مسامعكم أرقاما تعرفونها حول وجود حالة انتحار كل 40 ثانية في بلادنا وحول العالم، وأن الانتحار هو القاتل الرابع للإنسان، بل ربما أصدمكم عندما أقول أن تلك الأرقام لا تعبر عن الواقع، فكثير من وقائع الانتحار يتم إنكارها تجنبا لوصمة العار التي تلاحق المنتحر وأسرته من بعده، دون أن يشغل أحد باله بالسؤال لماذا وصل المنتحر إلى تلك النهاية المآساوية؟!

نتجاهل أن النفس تمرض تماما كالجسد، لكن مرض الجسد لا عيب في علاجه، بينما مواجهة أمراض النفس وعلاجها يعتبرها كثيرون “ فضيحة ووصمة عارنجاهد كي نخفيها.

مناعتنا النفسية تماما كمناعة أجسادنا تختلف من شخص لآخر، فما يؤثر على شخص قد لا يؤثر على من يجاوره، والفيروس الذي يصيب أحد أفراد الأسرة بمرض يلزمه الفراش، قد لا يكون له أي أثر على شقيقه الذي يشاركه نفس الغرفة، فلماذا إذن نتهرب من حقيقة أن ما يحيط بنا من مؤثرات حياتية سواء داخل الأسرة أو خارجها يمكن أن تؤدي إلى اعتلال نفسي، قد يتفاقم بتجاهله وإنكاره، وبالتالي نصل إلى نقطة اللاعودة!!

نحو 80% من حالات الانتحار في مجتمعاتنا العربية تقع في مناطق توصف بأنها ذات طابع محافظ، وطبعا كلمة “محافظ” هنا ربما تحمل أكثر من معنى، فربما تحمل إيجابيا- معنى الترابط الاجتماعي وتماسك منظومة القيم، لكنها -سلبيا- قد تعني معنى القسوة والقهر وعدم تقبل الاختلافات أو إتاحة مساحة كافية للحوار والنقاش الحر.

وللأسف البعض يفهم كلمات مثل القيم والأدب والأخلاق والاحترام والالتزام والتدين، وكأنها تعني الكبت والقهر والقمع، وهنا أحد مكامن الخلل، فحرص البعض الشكلي في معظمه- على فرض أسلوب صارم في التربية، يجعله يتجنب الحوار مع الأبناء، أو إدراك أنهم باتوا في مرحلة تتجاوز أسلوب الأوامر والتعليمات.

وعندما نستشعر وجود مشكلة ما، وغالبا ما يكون ذلك في وقت متأخر، نصطدم بصورة ذهنية بالية عن المرض النفسي والحاجة إلى العلاج، فالأسرة تخفي وجود مشكلة نفسية لدى ابنتها حتى لا تُعير لاحقا بذلك، وتضيع فرصتها في الزواج.

ويتم إخفاء وجود مشكلة نفسية لدى أحد أبناء الأسرة من الذكور بدعاوى أن كل الشباب كذلك، و”بكرة يبقى زي الفل” ونتركه فريسة نفسه وأزماته الداخلية، إلى أن نفيق على كارثة.

أخيرا …

إنكار المشكلة لن يحلها، والتنصل من المسئولية لا ينفيها، هؤلاء الشباب الذين قرروا في لحظة ضعف ويأس واستسلام أن ينهوا حياتهم بأيديهم ضحايا قبل أن يكونوا جناة في حق أنفسهم، ودماؤهم لا يتحملها فقط ضعفهم وهشاشة نفوسهم، بل جميعنا يتحمل بدرجات متفاوتة قدرا من المسئولية

نرشح لك

د. أسامة السعيد يكتب لـالموقع خارج النص.. العدالة الغائبة في واقعة السجود للكلب

أسامة السعيد يكتب لـ الموقع  خارج النص .. متى نعترف أننا أمة في خطر

أسامة السعيد يكتب لـ” الموقع ” خارج النص .. مشروع قومي لحماية الأخلاق ومكافحة البذاءة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى