أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ” الموقع ” خارج النص .. مشروع قومي لحماية الأخلاق ومكافحة البذاءة

هناك مثل شعبي قديم يقول الغجرية ست جيرانها، أي أن المرأة سليطة اللسان القادرة على إيذاء الناس بلسانها هي التي تمتلك السيطرة على جيرانها، وتفرض سطوتها بـقلة أدبهاعلى غيرها ممن يؤثرون السلامة، ويلتزمون بمقتضيات الأدب، ويفكرون ألف مرة قبل الدخول في مواجهة غير محسوبة العواقب مع تلك المرأة، لأن الغلبة في مثل تلك المواقف تكون بالطبع للأكثر بذاءة.

ويبدو أن المشهد الاجتماعي الراهن في حياتنا قد تسيده الكثير من أولئك الغجر، فلم يعد الأمر قاصرا على استخدام البذاءة وسلاطة اللسان في حسم الخناقاتالشخصية، بل تسللت البذاءة إلى مختلف مفاصل حياتنا، وباتت في كثير من الأحيان سلوكا غير مستهجن أو مرفوض اجتماعيا، بل وللأسف تجد أحيانا ولأسباب متعددةمن يبرر تلك البذاءة ومن يدافع عن سليطي اللسان بدعوى أن تلك هي لغة المجتمع، وأن ذلك الأسلوب هو النمط الشائع في الحياة اليومية!!

عذر أقبح من ذنب

والحقيقة أن ذلك الدفاع عن انتشار البذاءة والصمت على غزو قلة الأدبلحياتنا اليومية، وفرض ذلك الأسلوب المتدني، والانحطاط الأخلاقي هو عذر أقبح من ذنب، فمنح البذاءة شرعية الوجود، والقبول الاجتماعي أكثر خطورة من الجريمة نفسها، فالجرائم والمخالفات الأخلاقية تظل مرفوضة ومحكوم عليها بأن تُمارس على استحياء وبصورة فردية، طالما كان وعي وضمير المجتمع حيا، ومناعته يقظة في التصدي لتلك الممارسات، بينما الكارثة الكبرى تحل عندما تنهار مناعتنا المجتمعية، وتتهاوى قواعد الرفض وحصون المقاومة أمام تلك الأفعال الشاذة والسلوكيات المستهجنة.

تأملوا معي الكثير من جوانب حياتنا اليومية، لتدركوا حجم ما وصلنا إليه من مأساة سواء في الشارع أو في وسائل المواصلات العامة، وذلك التمدد المزعج والمستفز لممارسات البذاءة لفظا ومظهرا وسلوكا من جانب الكثير من الفئات، خاصة من شباب يعتبر تلك السلوكيات نوعا من الاختلاف، فضلا عن أنه تربى على أعمال فنية ودرامية تمجد من تلك الممارسات، وتعتبرها نوعا من البطولة، بل وأحد أسباب التميز وامتلاك السلطة في المجتمع.

سقوط أخلاقي في الملاعب

شاهدوا مباريات كرة القدم بعين لا يعميها التعصب الرياضي لنادٍ بعينه،  وتابعوا ممارسات الكثير من اللاعبين والقلة القليلة من الجماهير التي تحضر المباريات (المفترض أنها بلا جمهور) وكم وطبيعة السباب والشتائم التي تتلوث بها الأسماع، لتدركوا مدى السقوط الأخلاقي الذي بات يفرض نفسه، والغريب أن البعض وفي إطار المكايدة بين الأندية، وبخاصة قطبي الكرة المصرية الأهلي والزمالكيتعامى عن استفحال تلك الممارسات، ويغض الطرف عن التردي الذي يمارسه بعض اللاعبين وربما المسئولين في بعض الأندية الكبرى (وبالتأكيد لا أحتاج لذكر أسماء)، وقد باتت التجاوزات والبذاءات سمة مميزة لهم، بل ويتورط كل طرف كيدا في الطرف الآخر، في الدفاع عن تلك التجاوزات، وتبرير البذاءات، بل والبحث عن أعذار، متناسيا أن السقوط الأخلاقي لا يمكن تبريره، فهو كالنار إذا تركناها تلامس أطراف الثوب، فسرعان ما ستلتهمنا جميعا، فلا تنظروا تحت أقدامكم، وتبرروا اليوم ما ستندمون عليه غدا وفي كل غد.

استوديوهات مفروشة

وإذا ما انتقلنا من الشوارع ووسائل المواصلات وملاعب الكرة إلى استوديوهات الإعلام، فلن نجد الحال أفضل كثيرا، خاصة في تلك القنوات مجهولة الهوية، التي تحولت إلى استوديوهات مفروشةعلى طريقة الشقق المفروشةصاحبة السمعة السيئة.. فتلك القنوات تبيع الهواءلمن يدفع مهما كان ما يقدمه من محتوى، ومهما تدنى الأداء، بل إن كثيرا من تلك البرامج تحولت إلى ساحة للابتزاز، أو الإعلانات غير المباشرة، وتطفح شاشاتها بوجوه ما أنزل الله بها من سلطان، متصورين أن الإعلام مجرد ملابس ومكياج وشعر مضروب أكسجين، أما المعايير المهنية والضوابط الأخلاقية، وأسلوب إدارة الحوار، ومراعاة أولويات الجمهور، فكلها أمور عفى عليها الزمن، وباتت من المفردات ثقيلة الظل على قلوب وعقول هؤلاء، إن كان لهم قلوب وعقول!

دراما في خدمة البذاءة

حتى الأعمال الفنية والدرامية التي كانت وسيلة فعالة للتأكيد على قيم المجتمع ومعاييره التربوية الأساسية، وتعزيز بناء الوعي المجتمعي في الكثير من القضايا، تحول أغلبها إلى معول هدم وتدمير، فيندر أن تجد عملا تأمن على نفسك وأسرتك وأطفالك خلال مشاهدته من لفظ أو تعبير أو مشهد يدمر كل القيم التي تكافح لتزرعها وتنميها في أطفالك، وكأن هناك اتفاقا بين صُناع تلك الأعمال على المنافسة في التردي والسقوط الأخلاقي، لتعويض ضحالة الموهبة، وفقر الخيال، وخواء الفكر، فليس من حيلة لدى أولئك المفلسين سوى حشو الأعمال الدرامية بمشاهد العري، وخناقات الشوارع، ووصلات الردح ليكملوا حلقات مسلسلاتهم، وتنتفخ جيوب المؤلفين والمنتجين والممثلين بملايين الجنيهات، حتى لو كان الثمن هو ضياع قيم ومستقبل المجتمع وأخلاقه!!

أعلم أن البعض سيدافع ويبرر، مستندا إلى أن حرية التعبير، أو القول بأن المجتمع تغير، وأن تلك الثقافة وهذه اللغة والممارسات، هي ما يتداوله الناس في الشوارع وقطاعات واسعة من المجتمع، ومرة أخرى أقول لهؤلاء إن ذلك عذر أقبح من ذنب، فأولا وجود مثل تلك النماذج الشاذة والممارسات الرديئة لا يعني أنها تمثل أغلبية أفراد المجتمع، بل لا تزال محصورة في نطاق بعض الفئات التي تحاول أن تفرض سلوكياتها وثقافتها، فيما عُرف سابقا بـثقافة الميكروباص، وأصبحت حاليا ثقافة التوكتوك، بينما المجتمع المصري يضم في غالبيته أسر لا تزال تحافظ على قيم وثوابت المجتمع وتعاليم الأديان، على اختلاف المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي فلا مجال لفرض نمط معين لشريحة لا تمثل غالبية المجتمع، وتصديرها على أنها باتت هي الثقافة الغالبة، فذلك أسلوب خبيث للتضليل والإفساد.

انظروا إلى الصورة الذهنية التي خلقتها الدراما والسينما المصرية في مرحلة ما بعد سبعينيات القرن الماضيعن بلادنا في الوطن العربي، لن تجد سوى تصوير المجتمع المصري كقطعان من الراقصات والمنحرفات، والسكارى ومتعاطي المخدرات، وتأمل تلك الصورة التي تطفح بها أعمال السنوات الماضية، فستكتشف أن المصريين، وفق تلك الأعمال التي تتصدر شباك الإيرادات، وتنهال عليها ملايين الفضائيات، وأبطالها هم الأعلى أجرا،  لا يعدون أن يكونوا جماعات من البلطجية والساقطات والمدمنين، واسألوا كل من عاش لفترة في مجتمعات عربية أو تعامل مع بعض الأشقاء العرب ممن لم يزوروا مصر أويتعاملوا عن قرب مع شعبها عن صورة المصريين لديه، لتعرفوا حجم الكارثة!!

في المقابل تأملوا ما تصنعه الدراما من تأثير إيجابي  لصالح بعض الدول الأخرى، وكيف استفادت منها في ترويج صورة ذهنية إيجابية عن تاريخها وحاضرها، وربما أفضل مثال في هذا الصدد هو السينما الأمريكية، والهندية، اللتان استطاعتا أن تخلقا صورة ذهنية لمجتمعهما، بل وتساهم في نقل قيم تلك الدول والمجتمعات إلى العالم.

وحتى الأعمال الدرامية التركية، ورغم محاولات التسييس والاختلاق التي تحفل بها أعمالهم التاريخية، إلا أن بعض أعمالهم الاجتماعية استطاعت أن تنعش الرواج السياحي لديهم، وتستعرض جماليات مدن ومناطق باتت بعد تلك الأعمال على قمة أولويات السائحين، وحققت مكاسب هائلة نتيجة ترويج صورة ذهنية إيجابية!

مشروع قومي للأخلاق

اليوم .. نحن مطالبون أكثر من أي وقت بأن نتصدى لفيروس البذاءة الذي بات أكثر انتشارا وأشد خطرا من فيروس كورونا، فبلادنا تحاول أن تستعيد وعيها، وتستفيق من كبواتها، والبناء الأخلاقي لا يقل أهمية عن البناء العمراني، وبناء الإنسان والأمم يبدأ من الأخلاق، فالأخلاق والحفاظ على القيم النبيلة وتربية الإنسان على المبادئ الإنسانية التي تدعو إليها كل الأديان، هو صمام الأمان الذي يكفل للمجتمعات أن تحافظ على ما حققت، بل وتضيف إليه عبر الزمن.

البناء الأخلاقي  في تقديري الشخصيمشروع قومي عملاق، لا يقل أهمية عن كل ما نبنيه على أرض بلادنا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، والتصدي لفيروسات التحلل الأخلاقي والقيمي، لا يقل خطورة وأهمية عن التصدي للإرهاب والتطرف، فالإنحلال الأخلاقي وانتشار البذاءة نوع من التطرف يهدد المجتمع كله، ويقف على الضفة الأخرى التي يقف عليها الإرهاب والتشدد الديني والفكري، والتخلص منهما والتصدي لهما ضرورة لكي يتدفق نهر البناء في مجتمعنا  في أمان وسلام.. فبناء الإنسان هو البناء الأكثر بقاء وصمودا عبر الأزمان.

نرشح لك 

أسامة السعيد يكتب لـ” الموقع ” خارج النص ..الدكتور .. أبو جهل

أسامة السعيد يكتب لـالموقع نقطة نور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى