أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص …حريتهم”البيضاء” … وعنصريتهم “السوداء”!!

في سنوات العمر الأولى، يكون الإنسان مسكونا باندفاعات الشباب، الإعجاب السريع بالأفكار، والانسياق غير المتأني وراء اندهاشاته، لكن عندما تتراكم المعرفة، وتزداد قراءة الواقع عمقا، يرى الإنسان الأمور بمنظور مختلف.

على مدى سنوات ماضية، كانت رؤيتي للغرب محكومة بذلك الإعجاب بالإنجازات الحضارية التي يحققونها. أريد أن أتعرف أكثر على تلك العقول التي أنتجت كل هذا التقدم، وبالطبع عندما أنظر إلى ما نحن فيه في الشرق من تراجع وتخاذل وتخلف، يزداد الاندهاش والإعجاب بقيمة ما حققه ذلك الغرب المتقدم.

وخلال الدراسة في مرحلة الماجستير، وكانت رسالتي خلالهاعن قضايا حقوق الإنسان، بدأت دراسة علمية دقيقة لتلك القضايا، ومصطلح “حقوق الإنسان” صاغه الغرب، وإن كان المفهوم قد تطور عبر قرون طويلة، وشاركت فيه حضارات وثقافات وديانات مختلفة ليست غربية بالأساس.

اطلعت على ذلك التراكم الكبير الذي قدمه فلاسفة ومفكرو الغرب في مجال التنظير لحقوق الإنسان، ووضعها موضع التنفيذ في نظام عالمي صمموه على مقاس مصالحهم بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، التي التهمت الأخضر واليابس، ليس فقط على أرض القارة الأوروبية العجوز، ولكن في معظم قارات العالم.

“عالمية حقوق الإنسان”، الشعار يبدو براقا وجذابا، أن تحظى بمنظومة متكاملة من الحقوق كالحق في الحياة، والكرامة، والسلامة الجسدية، والحريات على اختلاف أشكالها، فقط لكونك إنسانا … يا لها من فكرة عظيمة، وياله من مبدأ نبيل!
لكن كما يقول الغربيون أنفسهم فإن “الشيطان يكمن في التفاصيل”، وبالفعل كانت التفاصيل شيطانية!
عندما تتخلص من القراءة التفصيلية، وتنظر إلى الأمور برؤية بانورامية تتكشف الحقائق واضحة، فأكثر من يغتالون الحق الإنساني في الحياة هم أكثر من يطالبون يحاسبون الآخرين على ضرورة احترام هذا الحق!
أنظروا إلى عشرات الملايين الذين دفعوا حياتهم ومئات الملايين غيرهم الذين فقدوا أجزاء من أجسادهم أو تشردوا نتيجة حروب الغربيين مع بعضهم البعض، في حروب فرضوا علينا تسميتها بـ”العالمية” لأنهم يحتكرون العالم، ولا ينظرون إلى الأمور إلا من منظورهم الخاص فقط، فهم العالم، والبقية مجرد بقية! أو كما صاغ صامويل هانتجتون، صاحب نظرية “صدام الحضارات” الشعار بوضوح وفجاجة لاحقا عندما أشار إلى أن خريطة العالم يمكن اختزالها في عبارة “The west and the rest”، أي الغرب و”البقية”!!
المرة الوحيدة التي استخدمت فيها القنبلة النووية في التاريخ البشري، استخدمتها أكبر قوة غربية (الولايات المتحدة) ضد اليابان، وكل مجريات الأحداث وقتها لم تكن تشير إلى وجود ضرورة لاستخدام كل هذا القدر من القتل والتدمير والتخريب، إلا أن تلك العقلية الحاكمة في الغرب أرادت أن تبعث برسالة من أجل تأكيد فكرة الهيمنة الغربية على المستقبل، مستقبل العلم، والحرب، وحتى القدرة على إبادة الجنس البشري من على الأرض!!
وتوالت على مدى سنوات لاحقة أحداث جمة، فتدخل الغرب لتغيير أنظمة محبوبة من شعوبها ومنتخبة ديمقراطيا، لأنها لم تكن على هوى المصالح الغربية (حكومة مصدق في إيران مثلا)، بل وساعد الغرب الذي لا يتوانى عن انتهاز أية فرصة للحديث عن أهمية الديمقراطية في إجهاض كل التجارب الديمقراطية الوليدة في بلدان عربية وشرقية، فقط لأن ذلك سيمس بمصالحه الضيقة.
وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001، فتحركت جحافل الإمبراطورية الأمريكية لمعاقبة العالم كله، قبل أن تتأكد حتى من حقيقة الفاعل.. احتلوا أفغانستان، وغزوا العراق، وعاقبوا العرب والمسلمين بالظن والشبهة، وأرسوا مبدأ ربما كان الأجدر أن يضعه “جانكيز خان”، وليس رئيس أمريكي في بدايات القرن الحادي والعشرين، عندما أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بصلف: “من ليس معنا فهو ضدنا”، وقبلها استدعى واحدة من أسوأ صفحات التاريخ، عندما قال “يجب أن نشن حملة صليبية جديدة”!!
ارتكب الأمريكيون ومن ورائهم توابعهم الأوروبيين من الجرائم وعمليات السلب والنهب، والتعذيب والتخريب في بلدان الشرق وفي أفريقيا ما يندى له الجبين، ويجعلنا لا نصدق كلمة واحدة عندما يتحدثون عن حقوق الإنسان، نهبوا الثروات، وعذبوا الأبرياء، اغتالوا الأرواح، وتآمروا على الشعوب، وعندما فرغوا من مهمتهم تركوا البلدان التي تعهدوا بتطويرها خرابا، تتخبط في ظلمات الانقسام والطائفية والحروب الأهلية!!
انحاز الغرب للقتلة الإسرائيليين، ولاموا القتلى من الفلسطينيين لأنهم ينتفضون تحت سكين الذبح اليومية التي تنحر رقابهم بدم بارد، طالبوا الفلسطينيين بالهدوء والصمت حتى لا يجفل القاتل الإسرائيلي وهو يذبحهم أو يغتصب أراضيهم ويسلب حقوقهم.

اصطنع الغرب مقاييسالمفهوم الحرية وفق هواه، استخدم قوته العسكرية، وهيمنته الاقتصادية، وسطوته الثقافية والإعلامية في ترويج تلك الحرية”البيضاء”، التي لا تعترف بأي تنوع ولا تسمح باختلاف، واعتبركل من يخالفها آثم، ومن يجرؤ على مناقشتها ديكتاتور، فكانت دعواهم لتلك الحرية “التفصيل” هي قمة السلطوية وأبشع أشكال التسلط!!
أغلق الغرب “الإنساني” أبوابه في وجه جحافل الهاربين من الموت في البلدان التي تآمر عليها، وأشعل بها الحرائق، وسرق ثرواتها، فلم يبق أمام المهاجرين المساكين سواء الفرار من جحيم بلادهم، إلى الجنة الغربية البيضاء، فوجدوا الأبواب موصدة في وجوههم، والوجه الحقيقي للإنسانية الغربية يسفر عن حقيقته.

في المقابل، فتح الغربيون أبوابهم للاجئي أوكرانيا، ووفروا لهم المأوى والمأكل والعمل، ليس فقط من أجل عيون الإنسانية، ولكن لأن بلادهم تدور في الفلك الغربي، تخدم مصالحهم، وتحقق مآربهم!
انتخب الغربيون حكومات يمينية متطرفة في العديد من البلدان الأوروبية، وباتوا يصفقون لمن يطلق الشعارات النارية المطالبة بطرد المهاجرين، وفرض قيود على العرب والمسلمين الذين يرون أنهم يتمددون في أوروبا ويرفضون الثقافة الغربية، ويريدون فرض ثقافتهم الخاصة.

جرمت دول غربية عدة الحجاب، ومنعت رفع الآذان، واعتبرت أي إشهار لرموز دينية مخالفة قانونية تستوجب العقاب، وطالبت القادمين إلى أرض الغرب “المقدسة” باحترام عادات وتقاليد تلك الشعوب.

في المقابل، لم يتقبل أولئك الغربيون تطبيق نفس المبدأ على انفسهم، وهم يحلون ضيوفا على أرضنا، تأففواواعترضوا، بل وشنوا حملات النقد والتجريح، لأننا نرفض ترويجهم للشذوذ، ودعوتهم لتلك الجماعات الخارجة عما خلق الله الناس عليه، يصرون على الترويج لأفكار تلك الطغمة الشاذة عبر إعلامهم وسياسييهم وحتى فرقهم الرياضية!!
تتحايل وزيرة ألمانية على حظر شعارات الشواذ في كأس العالم المقام حاليا بقطر، وتتخفى وهي تحمل ذلك الشعار كاللصوص، ثم تظهره بعد دخولها الملعب، فيهللون لشجاعتها، ويمتدحون موقفها، ولو فعلها مسئول سياسي عربي أو مسلم وأظهر رمزا داعما لقضية كالقدس، أو يدين جريمة إسرائيلية، أو يفضح انحيازا غربيا، لما نجا من الهجوم والاتهامات، بل وربما المحاكمات، باعتباره إرهابيا متطرفا مخالفا للقواعد، ومنتهكا للقوانين!
اتحاد الكرة الألماني يجبر لاعبيه على الإشارة إلى تكميم الأفواه، عند التقاط الصور التذكارية ليبعثوا برسالة اعتراض على منعهم من ارتداء شارات الشواذ، ويطالب العديد من المحللين في القنوات الألمانية أفراد منتخب بلادهم أن يتبادلوا القبلات المثلية عند الاحتفال بإحرازهم أي هدف، وهو سلوك لن تستطيع الدولة المنظمة منعه!!
هل هذه هي الحرية التي يريدونها، وهل بهذه الصورة يدفعون العالم إلى احترام قيمهم ومبادئهم؟!
أهكذا يحاولون أن يحترموا ثقافة الآخر، وهم الذين يصدعون رؤوسنا ليل نهار عن ضرورة التسامح واحترام الآخر؟!
هذه هي حريتهم “البيضاء” .. وهكذا تبدت عنصريتهم “السوداء” .. فأهلا بكم في عالم الجنون والمعايير المزدوجة!!

اقرأ ايضا للكاتب

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص …إخوان دون كيشوت”!!

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص …تجار الأكاذيب .. وذاكرة السمكة!

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص … كارثة  الاعتراف بـ«الدولة الموازية» !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى