أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص …إخوان “دون كيشوت”!!

في رائعة الروائي الأسباني ميجيل دي ثيربانتس،والتي أسماها “دون كيشوت” أو “دون كيخوته” (حسبما يرى المترجمون)، ونشرها على جزئين بين أعوام 1605 و1615، تستغرقنا مغامرات الشخصية الرئيسية ألونسو كيخانو، وهو رجل قارب الخمسين من العمر يقيم في قرية في إقليم لامانتشا، وكان مولعًا بقراءة كتب الفروسية بشكل كبير، ولسذاجته كان يصدق كل كلمة من هذه الكتب على الرغم من أحداثها غير الواقعية على الإطلاق.

وقد عاش الرجل يحلم بأي دور بطولة، دون أن يتحقق أيا من أحلامه، وظل رجلا تافها يعيش على الخيال، ولا يريد الاعتراف بواقعه، بل وصل به الحال إلى أن يُسقط ذلك الخيال على الواقع، ويتعامل معه على أنه الحقيقة.

فقد ألونسو عقله من قلة النوم والطعام وكثرة قراءة الكتب الخيالية، وقرر أن يترك منزله وعاداته وتقاليده ويشد الرحال كفارس يبحث عن مغامرة تنتظره، وأخذ يتجول عبر البلاد حاملا درعا قديمة ومرتديا خوذة بالية مع حصانه الضعيف روسينانتي، حتى أصبح يحمل لقب “دون كيشوت دي لا مانتشا”، ووُصف بـ”فارس الظل الحزين”.

وبمساعدة خياله الخصب، كان يُحّول كل العالم الحقيقي المحيط به إلى ما يصوره له ذلك الخيال، فهو يغير طريقته في الحديث ويتبنى عبارات قديمة كتلك التي قرأها عصر الفرسان، وهكذا تحول العالم كله في رأسه المليئ بالخيالات إلى ميدان يمارس فيه مغامراته العبثية.

ولم يتوقف جنون دون كيشوت عند هذا الحد، فلابد لمثل هذا النموذج المرضيمن أتباع يصدقونه ويدورون في فلكه، حتى يتمكن ذلك المجنون من الإحساس بنصره الزائف، لذلك أقنع “فارس الظل الحزين” جاره البسيط بمرافقته ليكون حاملا للدرع ومساعدا له مقابل تعيينه حاكما على جزيرة، وصدقه الجار الساذج، وسار كالأعمى وراءه!
وتبلغ ذروة المتعة الروائية، عندما يقاتل دون كيشوت ضد العديد من العملاقة من وجهة نظره مثل طواحين الهواء والتي توهم أنها شياطين ذوي أذرع هائلة، معتقدا أنها مصدر الشر في الدنيا، فهاجمها غير مبالٍ إلى صراخ تابعه وتحذيره له، حيث رشق رمحه تجاهها فرفعته أذرعها في الفضاء ودارت به وطرحته أرضا فحطمت عظامه.

وذات مرة صور له عقله المريض وجود جيش جرار يملأ الجو غبارا وضجيجا، فيندفع بجواده ليخوض المعركة التي أتاحها له القدر حتى يثبت شجاعته ويخلد اسمه، ليكتشف لاحقا أنه محاط بقطيع من الأغنام!!
وعلى هذا المنوال تسير أحداث الرواية التي حققت مكانة عالمية، جعلتها تعيش حتى اليوم، ليس فقط على أرفف المكتبات وبين أيدي القراء، بل الأغرب أن بعض أحداثها العبثية تتكرر – بشكل أو بآخر- في حياتنا اليومية، وليس أدل على ذلك من ممارسات جماعة “الإخوان” الإرهابية في واقعنا المعاصر.

تلك الجماعة التي تعيش على مدى تسعة عقود في شخصية “دون كيشوت”، تصطنع الأعداء، وتفتعل المعارك، وتنهزم في كل المواجهات!!
هذه الجماعة التي تتخبط في ظلمات التفكك والتناقض، وتمارس الكذب والإدعاء كما تتنفس، فقدت منذ سنوات بعيدة قدرتها على فهم أو معايشة الواقع، وقد وصلت ذروة “الدونكيشوتية الإخوانية” خلال السنوات الماضية، عبر إسقاط أوهامها وأمراضها النفسية على الواقع، وباتت تتعامل مع تلك الأوهام على أنها حقيقة!!
وكما أن دون كيشوت لم يشعر بالزهو إلا عندما سار وراءه تابع ساذج، وبات محاطا بقطيع من الأغنام، فإن جماعة “الإخوان” استطاعت بطرق مختلفة أن تعبث بعقول أناس بسطاء، صدقوا الدعايات الزائفة التي تسخدم الخطاب الديني، وتحاول أن تلبس السياسة ثوب الشريعة، والأطماع الدنيوية عباءة الدعوة إلى السماء.

وهكذا عاث “الإخوان” في الأرض فسادا وجنونا، يقاتلون طواحين الهواء، وهم يتصورون أنهم يخوضون المعارك، ينكرون خروج عشرات الملايين ضد حكمهم في مصر خلال ثورة 30 يونيو 2013، ويقنعون أنفسهم وأتباعهم المغيبين حتى الآن – بقدرة يحسدون عليها – أنها لم تكن أكثر من صور مصنوعة بالـ “فوتو شوب”.

يستمعون إلى تحذيرات القوات المسلحة من أجل العودة إلى طريق الصواب والحوار، فيصور لهم عقلهم المريض أن تلك التحذيرات موجهة لملايين المواطنين وليست لهم.

وحتى عندما يُطاح برئيسهم من سدة الحكم، يقنعون أتباعهم المساكين بأن الولايات المتحدة قد حركت الأسطول السادس في البحر المتوسط لإعادة “الرجل الاستبن” إلى الحكم مرة أخرى!!
يحيكون الكذبة تلو الأخرى، يسخرون من مشروعات عملاقة كقناة السويس الجديدة، ويقسمون بأغلظ الأيمان أن تلك المشروعات لا تتجاوز في حجمها “طشت أم” أحدهم، وعندما يخرج المشروع إلى النور يبهر العالم، ويشارك في افتتاحه زعماء الدنيا، لا يتورع أولئك عن مواصلة أكاذيبهم، وكأنهم لا يريدون أن يغادروا “طشت” الست الوالدة!!
وعلى مدى السنوات، لا يكف “الإخوان” عن محاربة “طواحين الهواء”، والدعوة إلى إشعال ثورات، لا وجود لها إلا على شاشاتهم المشبوهة وفي صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر التريندات المفتعلة، لكن عندما يحين وقت الثورة المزعومة، لا تجد سوى خواء يفوق ذلك الخواء الذي يخيم في رؤوس الجماعة وقياداتها وأتباعها!
لا يخرج من بينهم رجل رشيد واحد، يعترف بالأخطاء، ويجمع شتات الجماعة الممزقة، ويحاول أن يفكر فيما جنت يداهم، ويعتذر عنه، لكن كل ما يخرج عن تلك الجماعة الإرهابية أصوات نشاز، ودعوات للتحريض والكراهية وحلقات تتلو أخرى من الأكاذيب التي لا تنتهي، وكل هدفها الحفاظ على شرازم الأتباع المضللين، الذين يحملون الدرع الصدئ، والرمح البالي لدون كيشوت الإخواني، الذي لا يزال يمنيهم بتلك اللحظة التي ينقضون فيها على الحكم، فيمنحهم ما وعدهم به من سلطة وجاه!!
ولم تكن دعوة “الإخوان” للتظاهر يوم 11/11 إلا دليلا جديدا على عبثية فكر الجماعة وأزلامها، فقد تصوروا أن هذه هي اللحظة المناسبة للانقضاض على الدولة المنشغلة باستضافة أكبر قمة عالمية على وجه كوكب الأرض، بحضور زعماء وقادة العالم، وبمشاركة نحو 40 ألف شخص من كل الدول، فشاء الله أن يكون ذلك اليوم شاهدا جديدا على فشلهم واندحارهم، وانتصارا جديدا للدولة والشعب الذي لفظهم إلى غير رجعة.

في ذلك اليوم، كانت أعداد ضيوف مصر، ممن جاءوا إليها يحملون الحب، وسيعودون إلى بلادهم يحملون أجمل الذكريات هي التظاهرة الوحيدة في طول مصر وعرضها في ذلك اليوم، الذي وقف فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن، ليشيد بما أنجزته مصر وحققته من تنمية، ويتعهد بالعمل مع الدولة المصرية من أجل مستقبل أفضل لسكان كوكب الأرض كله.

ألم يكن من باب أولى، أن تلملم تلك الجماعة الضالة والمضلة شتات عناصرها الذين يأكلون بعضهم البعض أكل الضباع في البرية، وبدلا من أن يدعوا المصريين للاحتشاد ضد وطنهم، كان أجدر بهم دعوة جبهة اسطنبول وجبهة لندن، والتيارات المتصارعة العديدة إلى وقف حملات التخوين والاتهام بالسرقة والانحراف التي يخوضونها ليل نهار ضد بعضهم البعض عبر شاشاتهم ومواقعهم المأجورة، والتي بات كل منها بوقا لمن يدفع أكثر!!
أعتقد أن الجماعة الإرهابية ومن يصدقها اليوم بحاجة حقيقية إلى علاج نفسي، وليس إلى تحليل سياسي، فهذه الجماعة، بكل ممارساتها العبثة تجاوزت كل حدود ما يعرفه علم السياسة، ودخلت منذ زمن بعيد في حالة من الهلاوس السمعية والبصرية والعقلية، تجعلها بغير شك بحاجة إلى علاج نفسي، فهي بالفعل “دون كيشوت” العصر الحديث!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى