أراء ومقالاتالموقع

قراءة في دفتر أحوال الجريمة

على مدى سنوات،ظللتُ أراقب صفحات الحوادث كقارئ ومتابع غير نهم، لكنني كنت دوما ملاحظا جيدا لتلك الطفرات التي تطرأ على أنواع الجرائم التي تتصدر صفحة الحوادث، والتحولات التي باتت تشهدها الجرائم التي تستقطب الانتباه.

وأعترف أن بعض تلك الجرائم صار يفوق خيال الروائيين، ويتجاوز حدود الواقع، وباتتنسبة غير قليلة من الجرائم تتسم بعنف لم يتوقع أحد أن نشهده في مجتمعنا الذي ظللنا نردد أنه وديع، مسالم، لا يعرف ذلك العنف المفرط إلا في حالات فردية، لا يجوز الانطلاق منها إلى تعميمات تطال المجتمع كله.

ورغم قناعتي المدعومة بالكثير من الأسانيد والأدلة العلمية والاجتماعية، بسيادة النزعة السلمية على عموم المصريين، إلا أن الواقعية والحقيقة تستوجب أيضا الاعتراف بأن شيئا ما تغير فينا، وأن تلك الطبيعة المسالمة التي كنا نفاخر بها ، لم تعد هي نفسها التي عهدناها طيلة عقود وربما قرون، فالمجتمعات كائن حي يتفاعل ويتغير، ينمو ويشيخ، وربما يوشك على الموت، فيولد من رحم المجتمعات الضعيفة مجتمعات أكثر فتوة، لكن الثمن غالبا ما يكون فادحا، والتجربة دائما ما تكون قاسية، هكذا تخبرنا كتب علم الاجتماع وتروي لنا خبرة التاريخ.

والواضح أن مجتمعنا في 2021، ليست هو نفسه الذي عرفناه على مدى القرن أو النصف قرن الماضي، بل إنه ليس هو نفس المجتمع في مطلع الألفية الحالية، فمن يجيد قراءة وتحليل ما يحويه دفتر أحوال المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، سيلحظ نزوعا مقلقا لاستخدام العنف، وتدهورا مزعجا لمستوى الأخلاقيات، وارتفاعا مستفزا للجرائم الغريبة والشاذة.

جرائم “داعشية”

وأستطيع أن أسوق هنا عشرات الأمثلة والنماذج التي ربما تعرفونها أكثر مني، وليس آخرها تلك الجريمة “الداعشية” البشعة التي ارتكبها أحد المجرمين بقطع رأس ضحيته عيانا بيانا أمام المارة في مدينة الإسماعيلية، وقبلها إقدام أحد الأشقاء على تدبير محاولة اغتصاب لشقيقته الكبرى التي تولت تربيته، مستعينا بصديق له، كي يجبرها على التنازل عن حصتها في الميراث لصالحه.

وقبل هاتين الجريمتين ما قام به زوج على خلاف مع زوجته من استعانة بأحد العاملين لديه لاغتصاب زوجته وتصويرها، كي يكون ذلك مبررا لتطليقها و”كسر عينها” حتى لا تطالبه بمستحقاتها، لكن الزوجة، فضلت الموت حفاظا على شرفها، فرحلت “شهيدة” تاركة العار والسجن وربما الإعدام يطارد الزوج ومن استأجره لتنفيذ تدبيره الشيطاني.

وسرد العديد من أمثلة تلك الجرائم يطول ويطول، فكيف نمت تلك العناصر الشيطانية في وادينا الطيب؟ وكيف استشرت تلك الممارسات “الداعشية” في مجتمع كنا نظنه يمتلك مناعة لا بأس بها ضد فيروسات العنف وانهيار الأخلاقيات؟

العشوائية .. أسلوب حياة!!

الإجابة ربما يشاركني فيها كثيرون، وأعتقد أنها متشابكة الأبعاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وثقافيا ودينيا وتعليميا وإعلاميا، فلم يكن لمثل تلك الممارسات أن تطفو على سطح حياتنا إلا بعد سنوات طويلة من العشوائية التي عشناها، والعشوائية هنا لا تنطبق فقط على نمط عمراني شاع على مدى سنوات، كوسيلة لتوفير مسكن ملائم تعجز الدولة عن توفيره لمواطنيها، بل إنه صار “أسلوب حياة” يدبر فيه المواطنون أمور حياتهم اليومية بمعزل عن أية سلطة رسمية أو غير رسمية، فكل شخص يدبر أموره وفق هواه وومصالحه، ولا رادع له إلا الاصطدام بمن هو أقوى منه، أو الاصطدام بالسلطة إذا ما تجاوز الحد.

ولا يقتصر الأمر على الفقراء، أو من يُسمَون – تأدبا – محدودي الدخل، بل إنه يمتد كذلك إلى أكثر الطبقات ثراءً، فالقدرة المادية أحيانا ما تكون دافعا أكبر للعشوائية والإحساس بالفوقية، وتعزيز الرغبة والقدرة على تجاوز القوانين والأعراف والأخلاق، بل إن أمراض الثروة يمكن أن تتجاوز في حدتها وغرابتها وخطورتها، تلك الأمراض الاجتماعية المرتبطة بالفقر.

ولنا في التطرف واعتناق الأفكار الدينية المتشددة خير مثال، فالدراسات الاجتماعية، عادة ما وضعت الفقر متهما رئيسا وعاملا فاعلا في اعتناق الأفكار المتشددة والانتماء إلى التنظيمات الإرهابية، لكن الواقع الذي عرفناه خلال السنوات الماضية كشف عدم دقة تلك التحليلات، فرأينا أثرياء ينضمون إلى “داعش” وطلابا في أغلى الجامعات يهجرون “نعيم” الرفاهية، ليعيشوا تجربة مختلفة في جحور تلك التنظيمات الظلامية.

زمن “العشوائية الاجتماعية”

الأمر إذن لا يتعلق بغنى أو بفقر، بقدر ما يرتبط بأنماط اجتماعية سائدة، وقيم مهيمنة، وضوابط تفرضها الجماعة البشرية على أفرادها. وللأسف الشديد صارت العشوائية والإحساس بالقدرة على تجاوز القانون، وتحدي الأعراف السائدة سلوكا شائعا في حياتنا خلال العقود الماضية، وعززته الأوضاع المضطربة سياسيا واقتصاديا وأمنيا بعد 2011.

ففي زمن “العشوائية الاجتماعية” يمكنك أن تفعل أي شيء طالما كنت تمتلك الوسيلة المناسبة، وخاصة بعدما فقدت مؤسسات التنشئة الاجتماعية قيمتها، وتقاعست عن أداء دورها، فتراجع حضورها في حياة المواطن، فالمدرسة لم تعدمكانا للتربية أو حتى التعليم، بل صارت مفرخة لإمداد مراكز الدروس الخصوصية بالزبائن، والمعلم، لم يعد الطالب بالنسبة له “أمانة”، بل سلعة ووسيلة للتكسب.

ودور العبادة– إلا من رحم ربي-  تحولت على مدى سنوات إلى وسيلة للتلاعب بالعقول، يعتلي منابرها أصحاب الجلابيب القصيرة، والعقول القاصرة، وهؤلاء نفثوا سمومهم في عقول فئات كثيرة من العامة المتعطشين للدين، دون أن تكون لديهم العقلية النقدية القادرة على استيعاب الفرق بين ما هو ديني وما هو سياسي.

وتحولت المنابر في مناطق واسعة وأحيان كثيرة، إلى أدوات لبث الكراهية الدينية والعنف الاجتماعي، وتمجيد التفرقة على أساس الدين، وترويج أنماط التدين الظاهري، فغاب جوهر الدين كوسيلةللتربية وأداة لتحسين العلاقة مع الله وترويض النفس، وتعديل السلوك إلى الأفضل مع الناس، إلى مجرد طقوس ومظاهر، يتباهى بها أصحاب العقول الفارغة دون فهم حقيقي لجوهر الدين وثوابته الأساسية، التي لا تعترف بقيمة الطقوس والالتزام الشكلي، إذا لم يترجم إلى أسلوب للتعامل مع كل ما ومن يحيط بنا، أي تحقيق شعار: “الدين المعاملة”.

فوضى الإعلام

وزاد الطين بلة الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي وما حملته من خطاب ديني واجتماعي خارج عن السيطرة، فتضاعفت الفوضى واختلط الحبل بالنابل، وارتبكت القيم.

وبدلا من أن تقدم وسائل الإعلام نقدا اجتماعيا بناءً يستهدف الإرشاد نحو الطريق الصحيح، وتكشف ما اعترى المجتمع من تدهور أخلاقي وتراجع للقيم العليا، ساهمت – بقصد أو دون قصد- في مزيد من ذلك التدهور، سواء من خلال تقديم محتوى فني ودرامي يتضمن ترويجالنماذج اجتماعية سلبية، تحولت لاحقا إلى قدوة ومثال لفئات من الشباب ومحدودي التعليم والثقافة، فقدوا بوصلة الاتجاه الصحيح، وضاعوا في زحام التحولات الاجتماعية والاقتصادية، فصارت شخصية البلطجي، ومدمن المخدرات، والبذئ صاحب الصوت العالي،المنتزعلحقه بيده، المستخف بكل قيم المجتمع وقوانينه، هوالمثال للشخصية القادرة على العيش واقتناص الفرص.

وجرى التركيز على تقديم هذه الشخصيات والنماذج الإجرامية في أكثر من عمل سينمائي ودرامي، لدرجة أن أحد المسلسلات التي أذيعت في شهر رمضان الماضي وصف هذه النماذج بأنهم “ملوك الجدعنة”، في رسالة واضحة تجاوزت مرحلة التلميح إلى التصريح بفجاجة الطرح وانحراف الرؤية.

يُضاف إلى ذلك تبني لغة الخطاب العشوائي وطريقة الحديث التي تشيع بين سائقي “التوك توك”، وتضمين ألفاظ وعبارات وأسلوب إلقاء يناسب فئة معينة من الطبقات الدنيا في المجتمع، وتقديمها على أنها لغة الخطاب السائد في المجتمع، وفي هذا فرض لثقافة التدني مع سبق الإصرار والترصد، فبدلا من أن يقوم الإعلام بتصويبها ونقدها، سلطعليها الضوء، واستضاف مطربي المهرجانات وأبطال مواقع “التيك توك” ومقدمي الفيديوهات الشاذة التي تستقطب ملايين المشاهدات على وسائل التواصل الاجتماعي،وقدمهم على أنهم نماذج ناجحة ومشهورة، دون أن يقدم رؤية متكاملة للموضوع، وتوضيح أن تلك النماذج صنعت شهرتها عبر تبني أنماط غريبة من السلوك، وكل غريب يلفت الانتباه ويستقطب الاهتمام، لكنه لا يجوز اعتباره نمطا سائدا في المجتمع.

سنوات الارتباك

وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله سنوات الارتباك التي أعقبت 2011 وما صاحبها من تحولات سياسية واجتماعية بارزة، وما رسخته من انهيار لأدوار بعض مؤسسات الدولة، واستخدامها في أداء وظائف لا تمت بصلة لرسالتها الحقيقية، وضعف قبضة الدولة في فرض ثقافة احترام القانون، وانتشار حمى التعدي على أي شيء وكل شيء المدعومة بقوة البلطجة أو الفساد أو تراخي أجهزة الدولة، أو كلهم معا، فإنه يمكننا فهم بعض أسباب تلك الجرائم القاسية والمؤرقة لكل ذي عقل يقظ، يدرك أن ثمة تغيرات تحدث في المجتمع، وأن استعادة الانضباط، وإعادة بناء منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية، تبدو تحديا هائلا لا يقل في أهميته وخطورته وحجم العمل المطلوب من أجله، عن إعادة بناء مصر وإصلاح اقتصادها، وبنيتها التحتية.

إن دفتر أحوال الجريمة في مصر يحتاج إلى وقفة حقيقية وحاسمة من الجميع، واستشعار الخطر ومواجهته مبكرا أفضل ألف مرة من السقوط في فخ التعامي والتجاهل، فنفيق على كوارث حقيقية، وساعتها لن يفيدنا ذلك السؤال المندهش: إيه اللى جرى لنا؟!

اقرأ ايضا للكاتب

أسامة السعيد يكتب لـ« الموقع » خارج النص..هذا ما جنيناه على أبنائنا!!

أسامة السعيد يكتب لـ «الموقع » خارج النص ..في محبة الأستاذ حسن حنفي

أسامة السعيد يكتب لـ «الموقع » خارج النص..ماذا خسرنا بـ انحطاط الفن المصري؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى