أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ «الموقع » خارج النص..ماذا خسرنا بـ”انحطاط” الفن المصري؟

الفن المصري كان، وأتمنى أن أكون متفائلا لأستطيع كتابة و”سيظل”، أحد مصادر القوة الناعمة لبلادنا في محيطنا العربي على الأقل، نجح على مدى عقود طويلة ماضية في أن يجعل الثقافة المصرية بشخصياتها ولهجتها وقيمها حاضرة في وجدان عشرات الملايين من أبناء الوطن العربي الكبير.

أصبح الفن المصري سفيرا فوق العادة يحمل إلى العالم أفكارنا، عاداتنا، تقاليدنا، نكاتنا، أسماءنا، ملامحشوارعنا، سخريتنا من مشاكلنا، قدرتنا على نقد واقعنا، حتى أحزاننا ومآسينا، كلها صارت إرثا مشتركا وهما يتقاسمه معنا الملايين من المحيط إلى الخليج، حتى وإن لم تتح لهم الفرصة لزيارة مصر والتعرف مباشرة على شعبها وثقافتها وملامسة حضارتها.

ظلت مصر لعقود متربعة على عرش الفن العربي، فالقاهرة هي هوليوود الشرق وصانعة النجوم، وقبلة المبدعين من كل الأعراق والأوطان، وكانت أفلام الأبيض والأسود ذات سحر وتأثير ليس فقط على أشقائنا وأصدقائنا، بل وحتى على أعدائنا، حتى يقال إن بعض قادة الكيان الصهيونيكانوا يعلقون اجتماعاتهم الرسمية عندما تعرض القناة الأولى بالتليفزيون الإسرائيلي يوم الجمعة من كل أسبوع، فيلما مصريا لا سيما خلال سبعينات وثمانينات القرن العشرين، وأن التلفزيون الإسرائيلي كان يذيع مثل تلك الأفلام لمنع الفلسطينيين المقيمين داخل حدود الدولة العبرية من متابعة المحتوى المعادي لإسرائيل على القنوات العربية، لكنه اكتشف لاحقا فداحة ما أقدم عليه، إذ ازدادت مساحة المتابعين للفيلم المصري، سواء من العرب أو اليهود الشرقيين، بل وحتى من اليهود الغربيين، وخشي ساسة إسرائيل من خطورة تأثير الغزو الثقافي المصري عبر بوابة الفن، فقرروا وقف عرض تلك الأفلام مصحوبة بترجمة عبرية.

إلى هذا الحد يمكن أن يؤثر الفن في حياتنا، بل الأكثر ما تشير إليه العديد من الدراسات والأبحاث حول قدرة الفن بكل أنواعه الدرامية وغير الدرامية في صناعة الصورة الذهنية، ليس فقط للدول والشعوب في أنحاء العالم، بل وخلق صورة تلك الشعوب عن نفسها، فإذا ما قدمت نماذج قادرة على التحدي، ومنحازة للقيم النبيلة، فإن ذلك يساهم في نشر تلك الروح القوية والقيم الإيجابية في أوصال المجتمع، والعكس للأسف- صحيح.

الفن أحد روافد التربية، وبناء قيم المجتمع، وصناعة القدوة، وبناء النماذج التي يتصور جمهور المتابعين أنهم تعبير عن الواقع، وبالتالي فهو يسهم بصورة كبيرة في بناء فهمنا لواقعنا والعمل على تغييره إلى الأفضل، وقد استطاع الفن المصري السينمائي والدرامي لعقود أن يلعب دورا حيويا في هذا الشأن، وبنجاح واقتدار ساهما في صناعة سمعة طيبة لهذا الفن يعيش عليها إلى اليوم، وإن كنت أخشى أن يُضّيع الواقع ما راكمه الماضي!

تبعات “النكسة”

أعتقد ويتفق كثير من المتخصصين في ذلك- أن تداعيات هزيمة 1967 كانت بمثابة نقطة التحول التي عرفها الفن المصري تماما ككثير من أحوال المجتمع بعد زلزال 5 يونيو، لكن للأسف لم يستطع الفن المصري أن يتخلص من تبعات “النكسة” ربما إلى اليوم، ودخلت تيارات الانحلال الأخلاقي لتبعد جمهور السينما عن المتابعة، وتختفي عادة الرحلة العائلية الأسبوعية إلى دار السينما، وتحولت معظم الأفلام إلى “مناظر” بغض النظر عما تحويه من “قصة”!!

بالتأكيد كان لظهور التلفزيون، تلك الشاشة الساحرة الصغيرة دور بالغ الأثر في سحب البساط من تحت أقدام الشاشات الكبيرة، لكن الفن السينمائي بدلا من البحث عن عناصر جذب جديدة، أغرق في موجة الانحطاط الأخلاقي، متصورا أن تلك الطريقة ستكون سببا في استعادة الجمهور، لكنها للأسف لم تستقطب سوى المزيد من الفئات المتدنية والمتحرشين، بينما انصرف تماما الجمهور الحقيقي للسينما عنها، وشد رحاله إلى التلفزيون.

أزمة الدراما التلفزيونية

الدراما التلفزيونية هي الأخرى عرفت عصورا ذهبية، واستطاعت أن تقدم البديل الجذاب للجمهور، عبر أعمال خالدة لعمالقة حقيقيين في الكتابة والإخراج والتمثيل، وكثير منهم كانوا من “مطاريد” السينما الذين لم يتوافقوا مع متطلبات “سينما المقاولات” التي هيمنت على الشاشات الكبيرة.

تحولت الدراما التلفزيونية إلى البديل المقبول لإشباع الجوع الدرامي لدى الأسرة المصرية والعربية، واستطاعت القاهرة أن تستعيد بريقها الهوليودي، ولكن هذه المرة عبر التلفزيون، إلى أن تسلل نفس الفيروس القديم إلى الفن التلفزيوني، وباختفاء جيل من المبدعين الكبار وحراس الدراما الهادفة، ظهرت أجيال من صناع الفن، يركزون على أجسادهم أضعاف ما يهتمون بتنمية عقولهم، وظهرت الكثير من النماذج المستفزة، وتناثرت الألقاب المجانية على الأجساد العارية.

وفي زمن السوشيال ميديا، وجد أولئك الفارغون عقلا، مساحة جديدة لتعويض تفاهة ما يقدمون من أعمال لا تعرف سوى لغة العنف والخيانة والبذاءة والعلاقات المحرمة والإيحاءات الفاضحة، وبدلا من أن يستخدم أولئك “الفنانون” تلك المنصات الالكترونية في تعزيز حضورهم “الفني” صارت صفحات السوشيال ميديا ساحة لترويج خناقاتهم وبذاءاتهم وأزمات فساتينهم وكواليس حياتهموصورهم وفيديوهاتهم الغريبة المريبة.

وظهر العديد من الفنانين عقولهم أضيق من مساحة الأدوار التي يجب أن يتمتعوا بها وفقا لموهبتهم، وممثلات فساتينهن أقصر من عمرهن الفني لو كان معيار الكفاءة هو أسلوب التقييم، وباتت المهرجانات الفنية فرصة لاستعراض الأجساد، وليس لعرض الأفلام.

وتحولت الأعمال الدرامية أداة للتركيز على نماذج ساقطة، ووقائع شاذة، وعلاقات محرمة، ومساحة لتشويه أنفسنا بأيدينا، وبات البحث عن عمل يستحق المشاهدة، أو دراما يمكن للأسرة متابعتها دون صدمات أخلاقية، أقرب إلى البحث عن إبرة في كوم من القش، وإيجاد عمل لا يحتوي على مشاهد وألفاظ خادشة للحياء والذوق العام فرصة للتهليل والإشادة، وكأننا وجدنا كائنا فضائيا يسقط في قلب ميدان التحرير!!

إفلاس أخلاقي

وكما كان طبيعيا أن يتحول المصريون والعرب بعد موجة السقوط السينمائي المصري في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي إلى البحث عن البديل الهندي والأمريكي وغيرهما، كان طبيعيا أيضا أن تتراجع الدراما المصرية التي تخلت عن مكانتها بافتقادها البعد الأخلاقي، لتفسح المجال أمام دراما وافدة من تركيا والهند والمكسيك وكوريا والصين وغيرها، دون أن نلتفت إلى دور تلك الأعمال الدرامية الخطيرفي تمرير الأفكار والتلاعب بالعقول.

لا أنكر أن من بين تلك الأعمال “المستوردة” ما هو جدير حقا بالمشاهدة والمتابعة، وما يحمل قيمة فنية وإنسانية، لكنني على يقين أننا لو كنا نقدم أعمالا درامية تحافظ على الحد الأدنى من البعد الأخلاقي، ولا تغرق في مستنقع الإسفاف، لما وجدت تلك الدراما المستوردة الفرصة للانتشار.

إفلاس صناع الدراما المصرية على مدى العقود الماضية، وخروج الدولة من سوق الإنتاج، وهيمنة معايير انتاج القطاع الخاص وسيطرة رؤوس الأموال القادمة من بيزنس المطاعم والكافيهات، وربما مجالات أخرى لا يعلمها إلا الله، كانت كلها عوامل كفيلة بأن تنزل الدراما المصرية وتتنازل عن عرشها، وأن تفقد قدرتها على التأثير في الملايين الذين كنا نتباهى بمتابعتهم لأعمالنا من المحيط إلى الخليج.

الفن لا يؤثر فقط بما يقدمه من إبهار إنتاجي وإخراجي، بل بما يوفره من تأثير إنساني وثراء وجداني وقيمي، بل إن المبالغة أحيانا في عناصر الإبهار الشكلي، غالبا ما تكون وسيلة للتغطية على فداحة الإفلاس العقلي والوجداني الذي تعانيه تلك الأعمال.

تحدي المشاهدة الرقمية

التحدي اليوم بات أكبر مع ظهور منصات المشاهدة الرقمية، ودخول منتجين عمالقة مدججين بترسانة من مليارات الدولارات، كلهم يسعون لاقتناص نصيبهم من كعكة المشاهدة العربية، خاصة بعد إدراك هؤلاء أن الساحة باتت تعاني فراغا حقيقيا بخروج الدراما والفن المصري من القدرة على المنافسة، وهو أمر في تقديري أخطر من أن يبقى علاجه بين أيدي حفنة من الشخصيات التي لا تدرك خطورة الموقف.

لذلك لم أستغرب تدخل رئيس الجمهورية شخصيا للحديث عن ضرورة إعادة إنتاج أعمال فنية ذات بعد قيمي ووجداني، يعيد بناء صورتنا عن أنفسنا، ويرمم تلك الشروخ والثقوب التي تركتها أعمال كثيرة دون المستوى الفني والأخلاقي، فالأمر بالفعل يستحق حشد كل الطاقات والجهود، والمتابعة من أكبر قيادات الدولة.

استعادة الفن المصري عموما، والدرامي على وجه الخصوص لمكانته وقدرته على التأثير، تبدأ من استعادة القيمة الروحية ليقدم قصصا تمس العقل والروح وتثري الوجدان، لا مناظر” لأجساد عارية تشغل بال المراهقين، ويترقب جمهور السوشيال ميديا مشاهدتها على “الريد كاربت” لبعض المهرجانات التي اكتسبت شهرتها ليس من قيمة ما تعرضه من أعمال، أو ما تشهده من مناقشات لتطوير الصناعة والارتقاء بالمهنة، بل بما تعرضه من منافسة “ساخنة” وتنافس محموم يفوز فيه من يتخلى عن قدر أكبر من ملابسه، دون أن يدري هؤلاء أنهم يسحقون بابتذالهم واحدة من أهم أدوات التأثير والقوة الناعمةالمصرية عبر العصور.

نرشح لك 

أسامة السعيد يكتب لـ  الموقع  خارج النص..ملحمة أكتوبر كيف نقدمها بعد 50 عاما

أسامة السعيد يكتب لـ الموقع خارج النص .. بأي ذنب انتحروا؟!

د. أسامة السعيد يكتب لـالموقع خارج النص.. العدالة الغائبة في واقعة “السجود !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى