أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ ” الموقع ” خارج النص..ملحمة أكتوبر كيف نقدمها بعد 50 عاما؟

أسوأ ما يمكن أن ترتكبه أمة في حق نفسها، أن تختزل أيامها الكبرى في حفنة من الطقوس والممارسات المتكررة التي تطغى على قيمة الحديث، وتطمس جوهر ما يمثله، لصالح مجموعة من الشكليات التي تفقد بريقها مع مرور الأيام.

وها هي الأيام تتوالى، لتعود إلينا نفحات أكتوبر العظيم، بكل ما يحمله من ذكريات حية في القلوب، وفي أعماق الوجدان الوطني.. ذكريات ستبقى خالدة طالما كان هناك من يدرك قيمتها، ويستلهم دروسها الحقيقية، حتى ونحن نقترب من مرور نصف قرن على الحدث الأصلي.

ورغم أنني لا أنتمي بالسن إلى جيل أكتوبر الذهبي، ذلك الجيل الذي عاش مراراة الهزيمة، فصنع من ركام الأحلام المهدرة في صحراء سيناء جسرا نحو النصر، إلا أنني أشعر ككثيرين غيري- بالانتماء بالمعرفة والمحبة، بل وبالتربية والتنشئة إلى إلى جيل النصر، فوالدي رحمه الله قاتل على أرض الفيروز، وترك بين رمالها أجمل ذكريات عمره، وحفنة من أعز أصدقائه أحياء عند ربهم يرزقون، وورثنا عشقا لا يبلى لتلك الذكرى الخالدة وكل ما يمت لها بصلة.

حقيقية الشخصية المصرية

من يتدبر حقيقة الأعجاز المصري في حرب السادس من أكتوبر، يمكنه أن يستكشف بوضوح ودون عناء البحث في آلاف الصفحات بكتب التاريخ والاجتماع، الملامح الحقيقية للشخصية المصرية، تلك الشخصية التي تأبى الاستسلام للهزيمة، وترتبط بالأرض ارتباطا لا يفرقه الموت، فحتى بعد الموت لا أمنية للمصري سوى أن يدفن في تراب وطنه!

من يقرأ بعضا من صفحات البطولة التي تحفل بها ذكرى انتصارات أكتوبر،سيتعرف على حقيقة ذلك الإنسان المصري المذهل، الذي ربما لم ينل طيلة قرون حقه من الثروة أو السلطة، ومع ذلك لم يتزعزع يقينه وإيمانه بوطنه، ولم تنل الدعايات السلبية من روحه، فظل على نقائه وعشقه غير المحدود لبلاده، حتى إذا جاءت لحظة اليقين، كان في الموعد، يفرض وجوده، ويعلي راية وطنه.

ملحمة وطنية حقيقية

نخطئ كثيرا في حق أنفسنا وفي حق الحدث الخالد عندما نقدم انتصارتأكتوبر باعتبارها مجرد نصر عسكري وحسب، إنها ملحمة وطنية حقيقية، فكل جندي يقف على جبهة القتال وراءه عائلة ومجتمع يدعمونه، أم وأب، أشقاء وأحبة، أصدقاء وزملاء، زوجة أو خطيبة أو حبيبة، الكل ينتظر العودة المظفرة، يشحذ الهمم، ويعلي الروح المعنوية، ويترقب النصر.

وراء الإنجاز تخطيط وتدريب، استعداد وتجهيز، صبر ومثابرة، كوادر تعمل ليل نهار وفق مخطط علمي حقيقي لا يغفل جانبا من جوانب الإعداد للمعركة انتظارا لساعة الصفر، رغم إدراك الجميع أن العدو يحظى بدعم أكبر قوة عسكرية واقتصادية وسياسية في العالم، وبإمكانيات غير محدودة، ومع ذلك استطاع العقل المصري الانتصار في معركة المعلومات والخداع الاستراتيجي، وهو درس مهم، للأسف نتغافل عنه اليوم، فمهما كانت الفوارق والإمكانيات المادية والتكنولوجية كبيرة، إلا أن العقل والإخلاص وحسن التدبير يمكنهم سد الفجوة، واختزال الفوارق.

في أكتوبر تلاشت تلك المحاولات المشبوهة للتفرقة بين المصريين والتمييز بين أبنائهم، لن تجد صوتا يعلو فوق صوت المعركة، الدم واحد، المصير واحد، والهدف أوحد، وهو النصر.

لن تستطيع أن تفرق على طول الجبهة بين مسلم ومسيحي، غني وفقير، صعيدي أو بحراوي، نوبي أو سيناوي، الكل انصهر في جسد واحد، يد شابة، فتية، يجري في شرايينها دم مصري واحد بأمل ويقين راسخ بأن نصر الله قريب.

هذه الجيل الذي استلهم روح أكتوبر العظيمة، وعاش اعلى درجات المواطنة، عاد ليواصل معركته على مدى عقود، في بناء وتعمير، وتنشئة أجيال من الشباب على حب الوطن والإخلاص له، وليبقى رحيق أكتوبر مستمرا ومتواصلارغم كل العقبات والتحديات التي استنزفت الكثير من الطاقات.

سيناء لا تزال ساحة المعركة

ورغم حزني أحيانا من تقصيرنا في تقديم ملحمة أكتوبر 1973 كما تستحق، وكما ينبغي، سواء في المواد التعليمية أو في الدراما أو الإعلام، إلا أنني أعتقد أن كثيرا من عبق أكتوبر لا يزال كامنا في أعماق الروح المصرية، و لا يزال العديد من دروس تلك الحرب الخالدة حاضرا في الذاكرة الوطنية رغم مرور خمسة عقود.

وأكبر وأهم تلك الدروس أن سيناء لا تزال هي ساحة المعركة والمواجهة الحقيقية والأهم في تاريخنا المعاصر .. بوابة مصر الشرقية التي شهدت عبر عصور التاريخ توافد الغزاة على أرض الكنانة، وكانت ولا تزال معبرهم المفضل للنيل من أرض المحروسة، لكن عناية الله وإخلاص أبنائها وبسالتهم كانت في معظم الأحيان هي الدرع والسيف لحماية الأرض والعرض، وحتى في الحالات القليلة التي انتصر فيها الغزاة، كان المجتمع المصري نفسه حائط الصد الثاني، فلم يستسلم لثقافة الغزاة، أو يتلون بلونهم، أو يتحدث لغتهم، بل على العكس استطاع المصريون أن يذيبوا الغزاة في نسيجهم المحلي، فبقيت الروح المصرية دوما صاحبة اليد العليا.

وتدرك الدولة المصرية أن سيناء لا تزال هي أرض المعركة، وساحة المواجهة، رغم الاعتراف بأن طبيعة وأدوات الصراع اختلفت، إلا أن جوهر الصراع لا يزال قائما، وبالتالي لا يمكن الارتكان إلى وجود معاهدة سلام، أو عدم نشوب مواجهات تذكر طيلة خمسة عقود، كي نستكين أو نتراخي، بل على العكس، ينبغي التنبه دائما في حالة الهدوء، والاستفادة من عنصر الوقت في الاستعداد وبناء القدرات.

واليوم، تتطهر سيناء من جراثيم الإرهاب التي حاولت أن تستوطن في أرضها، وتتعافى من تلك العدوى التي أراد لها البعض أن تكون وباء يجتاح مصر كلها، بل إنها تستعد للخروج إلى العالم بوجه أبهى وألوان أزهى وصورة أكثر تحضرا، من خلال سلسلة من المشروعات التنموية الكبرى، التي لم تكن على مدى عقود سابقة سوى شعارات وحسب، لكنها اليوم تتحول إلى واقع يجتذب العمران إلى أرض الفيروز، وكلما توسع العمران، تراجعت أحلام الشياطين في الهيمنة على تلك الأرض المقدسة.

إعادة تقديم أكتوبر

خمسون عاما تكاد تنقضي على حرب أكتوبر المجيدة، ولا تزال ذكراها ملهمة، وذكرياتها حية، وينبغي أن تبقى كذلك على الدوام.

لا يليق أن نختزل حرب أكتوبر في مجرد أفلام باهتة فقدت جاذبيتها لدى أجيال الإنترنت، أو شهادات قديمة تتكرر إذاعتها في يوم واحد، بينما تتوارى سيرةأكتوبر بقية العام.

أعتقد أننا بحاجة إلى رؤية جديدة وخطاب مختلف، نقدم به ملحمة أكتوبر لأجيال لم تعايشها، ولم تعرف عنها سوى تلك المعلومات المدرسية القاصرة، بينما الدروس الحقيقية من تلك الحرب لا تزال غائبة عن الوعي.

نحتاج إلى تقديم انتصارنا الأعز في المائة عام الأخيرة بصورة تناسب أدوات العصر وبأساليب أكثر جاذبية.

نحتاج أن نزرع أكتوبر 1973 في وجدان وعقل كل مصري، ليدرك عظمة وطنه، ويستشعر أهمية التضحية في سبيله، بعيدا عن الكلمات الرنانة والشعارات التي لم تعد تلقى آذانا مصغية، بل ينبغي أن يكون ذلك بأعمال احترافية، وبرؤية مختلفة، وروح عصرية.

أمامنا فرصة حتى الاحتفال بالذكرى الخمسين لحرب أكتوبر المجيدة، علينا جميعا كدولة ومجتمع أن نفكر بجدية في كيفية إعادة تقديم حرب أكتوبر، واستلهام روحها، واستعادة حضورها لدى جميع الأجيال، وبخاصة الشباب، لتكون تلك الذكرى الذهبية إعادة تقديم لحدث يجب أن يبقى حيا عبر الأزمان.

نرشح لك

أسامة السعيد يكتب لـ الموقع خارج النص .. بأي ذنب انتحروا

أسامة السعيد يكتب لـالموقع خارج النص.. العدالة الغائبة في واقعة السجود للكلب

أسامة السعيد يكتب لـالموقع  خارج النص .. متى نعترف أننا أمة في خطر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى