أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص …دراما الموت والحياة

ربما يستمر الزلزال لثوان معدودة، لا تتجاوز الدقيقة، لكن تاثيره يبقى سنوات طويلة، مؤلما، مؤرقا، محزنا.

هذه هي الحقيقة التي تؤكدها الدراسات العلمية، فبعضها يشير إلى أن أثر الصدمات قد يدوم ما يقرب من 40 عاما كاملة، وبعيدا عن الحقائق والدراسات العلمية، فإننا وعن تجربة، ندرك تلك الحقائق دون الحاجة إلى برهان أو دليل علمي.

ربما قديما كانت الكارثة تحل فقط بالضحايا وذويهم، أما الأن وفي عصر البث المباشر ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن مساحة الوجع لا تقتصر على الدائرة المباشرة للكارثة، بل تمتد إلى قارات أخرى على بعد آلاف الأميال من مكان وقوعها، فنحن نتابع الكارثة لحظة بلحظة، ونرى آثارها المدمرة بصورة أكثر كثافة حتى من أولئك الضحايا المشغولين بأنفسهم ومحيطهم الصغير، وربما لا تتوافر لديهم الفرصة أو الأدوات لمعرفة الحجم الحقيقي للمعاناة.

الملايين حول العالم – ونحن منهم – يتابعون على مدار الساعة كارثة الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في السادس من فبراير الحالي، ولا يزال الحدث يستقطب اهتمامنا ويدمي قلوبنا، نشاهد الأطفال وهم يخرجون بوجوه جامدة ومشاعر متبلدة من بين الركام، فنندهش كيف يستطيعون البقاء بهذا الثبات وسط كل هذا الألم؟!
نسمع كلمات أب يناجي السماء وهو يقف أمام أكوام الركام في انتظار خروج عائلته أحياء أو أمواتا، بعدما تساوى عنده الأمران مع توالي الأيام وكر الساعات، فبات أمله أن يدفن أطفاله بيده، لعل ناره تهدأ ولو قليلا!
يقول أطباء النفس والمتخصصون في علاج أمراض ما بعد الصدمات، أن ما نشاهده حتى اليوم ليس سوى اللحظات الأولى من الفاجعة، وأن أولئك الذين يتعرضون للصدمات العنيفة والكوارث تنتابهم حالة من الذهول، تحول بينهم وبين التعبير الحقيقي عن مشاعرهم، لذلك تجد طفلا صغيرا يخرج من تحت الأنقاض بعد أيام من الخوف والجوع والعطش، لكنه لا يذرف دمعة من تلك التي كانت تنهمر إذا ما تأخرت أمه في إطعامه، أو تشاجر مع أشقائه للحصول على لعبة.

الحقيقة أن هؤلاء لا يزالون أسرى لحظات ما بعد الصدمة، وهي حالة تصاب فيها المشاعر بالتبلد، ويعجز الإنسان عن التعبير عما بداخله، لكن بعد إحساسه بالأمان وإدراكه أنه نجا من الموت، ينفجر طوفان من مشاعر الألم والوجع، ربما ينجو منه البعض عبر دعم وعلاج نفسي مكثف، وربما يغرق البعض في أحزانه وتحاصره أعراض الاكتئاب، الذي قد يطول -كما ذكرنا سلفا- إلى نحو أربعين عاما!
نحن بالفعل أمام كارثة حقيقية، لا يقتصر دمارها على كتل الأسمنت التي تهاوت، ولا الملايين الذين باتوا يسكنون العراء، ويواجهون مستقبلا مرهونا بقدرة الحكومات على مد يد العون لهم، أو يتوقف على سخاء المانحين ومدى تعاطفهم أو علاقاتهم السياسية القوية مع الدولة المتضررة، بل إن الأثر النفسي وحجم الوجع الإنساني ربما يكون الأفدح والأكثر إيلاما.
صحيح أن الأحزان هي الشيء الوحيد الذي يولد كبيرا ثم يصغر، لكن بعض الأحزان لا تتبع بالضرورة تلك القاعدة، والدليل أننا وإلى اليوم نتذكر كارثة زلزال 1992 في مصر، رغم أنه لم يكن – والحمد لله- بنفس القدرة التدميرية للزلزال الذي أصاب سوريا وتركيا، إلا أن الجيل الذي عاش تلك الفاجعة – وأنا منهم – لا نزال نتذكر جيدا لحظات الخوف والاضطراب، وذلك الإحساس المفزع بأن كل شيء من حولنا ينهار.

أنا شخصيا لا أزال أشعر بغصة وألم يعتصر قلبي كلما قادتني الظروف للمرور إلى جوار مدرستي التي كنت موجودا بها لحظة وقوع الزلزال، ورغم مرور أكثر من 30 عاما على الحدث، فإن التفاصيل لا تزال حية في ذاكرتي وكأنها وقعت بالأمس، وتنتابني في بعض الأحيان ارتعاشة وأنا أستعيد مشهد طلاب مدرستي وهم يهرولون على السلالم الداخلية، في محاولة جنونية للنجاة والفرار من المبنى الذي ظن الجميع أنه يتهاوى على رؤوسهم.

صحيح أن الأمر مر – ولله الحمد- بسلام، واقتصرت الحادثة على بعض الإصابات لطلاب تعرضوا للدهس خلال التدافع، لكنني أتذكر أن مدارس أخرى مجاورة شهدت حالات وفاة سواء نتيجة التدافع أو بسبب انهيار السلالم المهترئة التي لم تحتمل كل هذا الاندفاع، ولازلت أتألم وأنا أتذكر كم كان الموت قريبا من كل تلك الأرواح الصغيرة في ذلك اليوم؟!
كان الله في عون الأطفال الذين فقدوا أسرهم وعائلاتهم في زلزال سوريا وتركيا المروع، عندما يفيق أولئك الصغار على حقيقة أنهم صاروا وحدهم في هذه الدنيا.

كان الله في عون كل أب أو أم خرج من هذه الكارثة دون صغاره، بعدما كانوا أغلى ما ما يملكه في هذه الحياة، فإذا بكل شيء يضيع في لحظات، الأسرة والبيتوالدفء، وسيكون عليه أن يتعايش مع الأيام بذكريات سوداء لا تمحوها السنون.

تعاطفي كبير مع جميع الضحايا، لكن تعاطفي أشد مع الأشقاء في سوريا، هؤلاء الطيبين الذين كان عليهم أن يواجهوا في سنوات معدودة آلام الحرب والجائحة، والآن تداعيات زلزال مدمر، وكأنه كُتب عليهم أن يفروا من موت إلى موت، ومن دمار إلى خراب، ومن نجا منهم سيكون عليه أن يعيش واقعا قاسيا، في دولة أنهكتها الصراعات ألمت بهاالأزمات، وآلمتها الكوارث.

أعلم أن تعاطفنا لن يحل الأزمة، وأن المشاعر وحدها لا تمحو الأوجاع، وعلى الجميع دور كبير في مد يد العون، بخاصة للأشقاء في سوريا، والحقيقة أن ذلك الاندفاع التلقائي من جانب دول عربية عديدةفي مقدمتها مصر، كان أمرا مبشراوصادقا، فمصر -كانت ولا تزال- ملاذ كل الأشقاء على أرضها أو خارجها، وبرغم كل ظروفها، فإنها في لحظات الأزمات تبقى محط الأنظار ومحل الثقة.

أشعر بمسؤولية شخصة ووطنية وقومية وإنسانية كبيرة تجاه الأشقاء في سوريا، وأثق أن كثيرين يشاركونني نفس الإحساس، وقد بدأت الدولة في فتح قنوات رسمية وموثوقة للتبرع وتقديم الدعم، وعلينا أن نبادر لنقدم ما نستطيع، ففي لحظات الشدة يتجلى معدن الناس والدول الحقيقي، ومعدن المصريين في الأزمات أنقى من الذهب.

اقرأ ايضا للكاتب

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص …الحمد لله .. على نعمة الوطن

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص … قراءة في كف العالم

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص …حريتهم البيضاء;  وعنصريتهم السوداء !!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى