أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع » خارج النص ..خبازو العيش … وآكلوه!

أعادتني الضجة التي أثارتها أزمة اللوحات التي “لطشتها” مصممة جرافيك مصرية من فنان روسي، وباعتها إلى شركة إدارة مترو الأنفاق، لتوضع على أنها من إبداعها في محطة مترو كلية البنات، إلى حوار أجريته قبل أكثر من 20 عاما مع فنان عظيم وصاحب أعمال خالدة في مجال الفنون التشكيلية وهو الدكتور سامي رافع رحمه الله، والذي وضع تصميمات جداريات الخط الثاني لمترو الأنفاق (شبرا- الجيزة)، وقتها كان ذلك المترو جديدا، وكنت بحكم دراستي ثم عملي، أستقله يوميا، وأتابع بمزيد من الإعجاب تلك اللوحات الفنية التي تتوالى أمام عيوننا مع انتقالنا عبر المحطات جيئة وذهابا.

لم أكن أتمتع بفهم فني متعمق، لكنني كنت أستشعر بذائقة فطرية بسيطة كيف صنع ذلك الفنان شخصية لكل محطة، وكيف صاغ من خلال التشكيلات اللونية وتداخل الأشكال الهندسية لوحة عملاقة، تشعرك بتجددها، ولا تمل من النظر إليها واستكشاف تفاصيل جديدة بها كل يوم.

وشاءت الأقدار أن ألتقي الدكتور سامي رافع وأجريمعه حوار لجريدة “الأخبار”، ومن خلاله فهمت بصورة أعمق ما لم تسعفني به ذائقتي، فقد حكى لي كيف درس طبيعة كل منطقة تقع فيها محطة للمترو، بحث عما تشتهر به، طاف بين أبنيتها، وتجول في شوارعها وجلس على مقاهيها، وعايش ناسها، وقرأ تاريخها، ثم صاغ كل ذلك في سبيكة فنية جميلة، لا تزال تحتفظ برونقها إلى اليوم.

وكان مما كشفه لي الفنان سامي رافع، وهو أيضا من أبدع النصب التذكاري للجندي المجهول الذي نراه ونمر بها جميعا في طريق النصر، أنه حرص على وضع توقيعه على إحدى بلاطات السيراميك بجوار تصميماته الفنية، وأنه استخدم في سبيل ذلك تقنية تجعلها ثابتة بمرور الأيام، فكان ردي – وبدون مجاملة- أن اسمه صار محفورا في عقول وعيون ملايين المصريين من ركاب المترو، وأنهم باتوا يعرفونه حق المعرفة، حتى ولو لم يحفظوا اسمه، أو يفهموا من تشير إليه تلك البلاطة الصغيرة التي تحمل توقيعه الشخصي “رافع”.

تذكرت هذا الحوار بكل تفاصيله، سواء ما تحدث به الدكتور سامي رافع، أو أجواء اللقاء وسماتالتواضعالتي كان يمتاز بهاذلك الفنان الكبير، وثقافتهالموسوعية، وتأملت في المقابل تفاصيل الأزمة الأخيرة وطريقة عمل تلك الفنانة التي استسهلت “لطش” أعمال فنان آخر، بجرأة تُحسد عليها، وجهالة لا تليق بفنان، فطافت بذهني تعبيران يتعلقان بالعيش، ويجسدان عبقرية المصريين في فهم الدنيا، أولهما المثل المصري الجميل: “أعطي العيش لخبازه ولو أكل نصفه”، فالخباز المحترف سيعطيك عملا متقنا حتى ولو كان قليلا في كميته أو مكلفا في صنعته.

بينما التعبير الثاني الذي يستخدمه المصريون لوصف المستسهلين من أنصاف الموهوبين أو الراغبين في الحصول على مكسب سريع دون تقديم منتج حقيقي، وهو تعبير يصف أتباع أسلوب “السبوبة”بأنهم “بياكلوا عيش”، وللأسف صار هذا المنطق هو الغالب والمنتشر، بل وله أتباعه المدافعون عنه، الداعمون له، فانتشر القبح من حولنا، وهيمن منتهزو الفرص وأنصاف الموهوبين على المشهد، فأصبح كثير من جوانب حياتنا مختلقا زائفا مقلدا.

من حقنا أن نغضب مما فعلته تلك الفنانة التي خالفت كل قيم الفن وأخلاقياته، لكنها في الواقع تشبه في كثير من الجوانب زمانها، وتتعامل بقواعد اللعبة التي أجادها البعض واستطاعوا من خلالها تحقيق مكاسب لا يستحقونها، وسرقوا أعمال وانجازات موهوبين ومبدعين حقيقيين، كل جريمتهم أنهم لا يجيدون قواعد اللعبة، ولا يتقنون فنون التسويق وصناعة الصورة، وبناء العلاقات التي تمكنهم من اقتناص الفرص.

لكن الغضب الأكبر ينبغي أن يوجه إلى أسلوب الاختيار، ومعايير الانتقاء، وطريقة التقييم، فبالتأكيد لو لم يكن هناك تهاون في الاختيار، وتراخٍ في التقييم، لما استطاع هواة “أكل العيش” أن يفلتوا بأفعالهم، وأن تُقبل أعمالهم، بينما يواجه الموهوبون والمبدعون حقا المزيد من العقبات والتعقيدات.

ولا أريد أن أبالغ، أو أحمّل الأمور أكثر مما تستحق، لكن نموذج تلك الفنانة إياها موجود ومتكرر في كثير من مجالات حياتنا، وأتصور أنه آن الأوان أن تتغير معايير الانتقاء في حياتنا، فقد تكبدنا الكثير من الخسائر نتيجة الاعتماد على هؤلاء، بينما الاعتماد على الكفاءات الحقيقية هو السبيل الآمن والأوفر والأكثر استدامة إذا كنا نبتغي الإصلاح أو نريد التقدم حقا.

وحسبنا أن نعيد النظر في مشهدين ربما يكشفان قيمة حقيقية، فالعمل المتقن الذي قدمه الفنان سامي رافع في محطات مترو أنفاق الخط الثاني لا تزال قائمة متأصلة في جدران المحطات، ثابتة ألوانها، متجددة تصميماتها، بينما لم تستغرق إزالة تصميمات الفنانة إياها سوى بضع دقائق، استغرقها العاملون في تمزيق تصميماتها المسروقة، فالإبداع الحقيقي، والعمل المخلص هو الذي يبقى، أما ما يقدمه الأفاقون ومحترفي “السبوبة”، وأبناء منطق “إخطف واجري”، فلا مصير لما يقدمون سوى المزابل، سواء كانت بالمعنى الحرفي أو المجازي.

اقرأ ايضا للكاتب

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع » خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (5) إصلاح الإعلام

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (4) إصلاح البحث العلمي

د. أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص ..هوامش على دفتر الإصلاح (3) إصلاح التعليم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى