أراء ومقالاتالموقع

محمد جراح يكتب لـ«الموقع» عن قائد جيوش البر والبحر في مصر الفرعونية

من بين الوظائف العسكرية الهامة والرفيعة جداً في مصر الفرعونية كانت وظيفة مدير بيت الأسلحة؛ وتلك الوظيفة لم يكن يتولاها إلا الوجهاء والعظماء من القوم؛ والذين كان يتم التدقيق الشديد عند اختيارهم، ويكفي للدلالة على ذلك أن نعرف أن هذه الوظيفة أو ذلك المنصب قد ذهب إلى الأمير ” كا إن نيسوت ” ابن الملك ” سنفرو ” في عهد الأسرة الرابعة؛ وكانت مهمة مدير بيت الأسلحة هي تجهيز الجيش بالمعدات والأسلحة المختلفة.

وفي عصر الأسرة الرابعة أيضاً أصبحت قيادة الأسطول تحت قيادة موظف كبير حمل لقب حاكم الأسطول ( عز مر دبيت )، وكانت وظيفة هذا القائد تلي وظيفة القائد الأعلى؛ ويعمل تحت رئاسته وبتوجيهاته.

وكان أمر تجنيد الأفراد للالتحاق بالجيش من اختصاص حاكم كل إقليم، ومن المحتمل في ذلك الزمن أن ” عا فر ” الذي كان يحمل لقب مدير كُتّاب الفرق كان مكلفاً بملف تجنيد العساكر وإدارة شئونهم مثله في ذلك مثل الآخرين؛ كل في المنطقة المكلف بها والمشرف على شئونها.

وفي عصر الأسر الخامسة لم يطرأ أي تغيير على تلك الأوضاع، كان الجيش الملكي المصري مؤلفاً من جنود وكان يطلق على الواحد منهم لقب الشاب الجميل أو الصالح، ومن هؤلاء الجنود كانت تتألف وحدات تسمى ” عبر”، وكل وحدة من تلك الوحدات كانت تحت إمرة ضابط كان يحمل لقب رئيس الوحدة أو الفرقة ” خرب عبر “، ومن هذه الفرق كانت تتألف كتائب الجيش وهي ” عبر مشع ” وكان على رأسها قائد يحمل لقب قائد كتائب الجيش، وكان حرس الفرعون في القصر الملكي يتألف من فرق مختلفة من الجند تحت إمرة قائد فرق المجندين، وكان لكل فرقة اسمها الخاص بها، كما كانت توجد فرق عسكرية أخرى تتألف منها حاميات ثابتة داخل البلاد، وكانت هذه الفرق توضع تحت إمرة السلطة المدنية وذلك من أجل القيام بمهمة حفظ النظام الداخلي، ومما تجدر الإشارة إليه أنه في عصر هذه الأسرة أصبح هناك بيتان للسلاح أو رئاستان لكل من الوجهين القبلي والبحري، وكان الموظفون في تلك البيوت يتم اختيارهم من بين أخيار الموظفين وكانوا في الغالب يتم اختيارهم من بين قادة أفرع الجيش، وكان للقائد لقبان أحدهما هو “سيشمو إميرا إستي نثر “، والثاني هو ” خرب استي نثر ” ومعناهما مدير جنود الإله الحربي، على أنه ينبغي ملاحظة أن كلمة” نثر” وترجمتها في العادة تعني كلمة ” إله أو رب ” لا تعني هنا إلهاً أو رباً هنا؛ بل تعني الملك الفرعون الذي كان يشار إليه بتلك الصفة كثيراً في مختلف العصور المصرية القديمة.

أما موضوع العناية بالمجندين فكانت عظيمة جداً وتحظى بأهمية بالغة، وكان يتم استقبال وتدريب هؤلاء الجند واعطائهم الدروس الحربية اللازمة بما يناسب تأهيلهم للقتال، وقد تم تخصيص مصلحة للتدريب للقيام بهذه المهمة، وكانت هذه المصلحة قائمة بذاتها ويشرف عليها القائد الأعظم للجيش، ونذكر منهم هنا على سبيل المثال شخصاً اسمه ” كا إم ثننت ” وكان يحمل لقب قائد جيوش البر والبحر ومدير التعليم بالجيش.

كان الجيش تلزمه دائماً قيادة ماهرة لتصريف شئونه وقد تمثلت تلك الإدارة في بيت السلاح الذي عرف منذ عصر الأسرة الثالثة؛ وكانت إدارته موكلة إلى أمير ملكي؛ أو زوج لأميرة ملكية، وكان مستقلاً استقلالاً تاماً عن الإدارة المدنية؛ هذا وتنبغي ملاحظة أن الجيش كان يتألف من وحدات حربية يشرف عليها ضباط معنيين بالأمر وليست لهم أعمال مدنية، أي أنهم كانوا متفرغين تماماً لوظائفهم العسكرية.

وكان مظهر الجيش موحداً في عدته وعتاده وزيه، وهو ما تؤكده النقوش الخاصة بالمعبد الجنائزي للملك سا حو رع، فالمناظر توضح الجنود وهم يخطون خطوات عسكرية منتظمة وكلهم مجهزون بعتاد واحد وقابضون على سلاحهم بنظام واحد، وهذا يؤكد أن التعليم الحربي كان يلعب دوراً رئيسياً في مثل ذلك الإعداد، ولكن هذا يشير من ناحية أخرى للنشاط الحربي لهذا الملك إذ تعرضت البلاد في عهده لغزوة من ناحية الغرب، فقد هبطت بعض القبائل من الصحراء الليبية الغربية ومعها زعماؤها وجميع أفرادها من رجال ونساء وحيوانات وكل متاعهم ليستقروا في أرض مصر الغنية وكان لابد من دحرهم (1).

وتظهر لنا النقوش التي خلفها شخص يدعى وني (2) والذي كان يحمل لقب مدير أوقاف القصر الملكي وكبيراً لرجال البلاط، وكان قد كلف من جانب الملك بيبي الأول بحملة على البدو، فوصف تأليف الفرق العسكرية وكيفية تكوينها فقال إنها كانت تبدأ بقيادة الأمراء، ثم حاملي أختام الملك، والسمار الوحيدين، ورؤساء الحصون العظيمة، وحكام الحصون، والسمار مديري القوافل، ورؤساء الكهنة، ثم مديري الجنود المرتزقة ( إمرا جس بر )(3).

وتنبغي ملاحظة أن الجيش لم يعد تحت قيادة قائد عام للجيش كما كان قبلاً، بل كان يقوده “وني” كبير رجال البلاط؛ كما توضح لنا النقوش الكيفية التي كان يتم بها تجميع أفراد الجيش، فقد كان ذلك الأمر يتم من خلال حكام المقاطعات أو المراكز؛ وكانوا يأتون بالجنود من الحصون والمدن التي يحكمونها، وكان أمثال هؤلاء الحكام مكلفين بفحص الجنود وتسجيل أسمائهم، ولم يكن الجيش المصري ولا نظامه يقوم على السخرة أو عمل العصابات التي تسلب وتنهب؛ بل كان جيشاً منظماً ومدرباً في عدته وعتاده وطعامه!.

وابتداء من عصر الأسرة السادسة لم يعد لقب القائد الأعلى يقابلنا، فقد بدأ نوع من انفراط العقد، فبدأ حكام المقاطعات يستولون على الإدارة الحربية بعد أن أصبحوا أمراء قطاعات وكانوا يجندون الجنود لخدمة مُلكهم، ويعتقد أن الدولة واعتبارا من عصر الملك” بيبي الأول ” ونتيجة للضعف العام تم تقسيمها إلى قطاعات أو مقاطعات تكاد تكون شبه مستقلة، ويتضح لنا في أواخر عصر هذا الملك أن الوظائف العسكرية كادت أن تكون وراثية، وكنتيجة لقيام نظام الإقطاعيات أو الإمارات الإقطاعية أصبح تجنيد الجنود بإشراف الفرعون أمراً شبه مستحيل، ولم يتبق له ابتداء من هذا العصر إلا جنوده المرتزقة والذين خدموا بين وحدات الجيش المصري؛ وكانوا تحت إمرة القائد العام للجيش؛ وأصبحوا من القوة والسلطان في عصر الملك ” بيبي الثاني ” إلى الدرجة التي أصبحوا فيها أمراء إقطاعيين في جزيرة ” الفنتين “، أي أنهم أصبحوا من أهم حكام الإقطاع في الجنوب.

كانت الخدمة العسكرية زمن الدولة القديمة إجبارية، وكانت كل مقاطعة يجند فيها الجنود للعمل في المحاجر وقطع الأحجار اللازمة لعمليات بناء ما يأمر به الملك من مقابر أو معابد أو غيرها؛ أو للقيام بواجبات الدفاع والأعمال الحربية عندما تستدعي الظروف ذلك، وقد أوضحت لنا كل ذلك رسوم المعبد الجنائزي للملك ” أوناس ” في عصر الأسرة الخامسة، فقد كانت كل فصيلة من الفصائل يقودها ضابط، وكان من هؤلاء الضباط من نال لقب ضابط الخمسة أو ضابط العشرة، وإلى جانب الرسوم المشار إليها نقشت رسوم أخرى تدل على تنظيم الجيش وتسليحه.

وجدير بالذكر أن الخدمة العسكرية والالتحاق بوظائفها لم تكن وراثية، وإن كان هذا لا ينفي وجود ضباط سهلوا لأبنائهم الالتحاق بالجندية والانخراط فيها، وكان الصغار يؤتى بهم للثكنات العسكرية ليتعلموا وهم ما زالوا أحداثاً ليتعلموا كيفية الرمي بالقوس أو السهم، أو استخدام البلطة أو دبوس القتال وغيرها من أنواع الأسلحة المستخدمة ليشبوا وقد تشبعوا بفنون العسكرية كأحسن ما ينبغي، وبالإضافة لذلك كانوا يتلفون تدريبات رياضية مختلفة منها التدريب على فنون السير والكر والفر والمصارعة والملاكمة للحفاظ على لياقتهم وليكونوا دائماً في وضع الاستعداد عند أي استدعاء، وكانوا يعدون أنفسهم للمعارك بتدريبات حربية متعددة، وعند الانتهاء من التدريبات كانوا يلحقون بالفرق المحلية، وكانوا يمنحون امتيازات الجند المعروفة، حيث كان كل جندي يمنح مقداراً معيناً من الأرض وكان حاكم الإقليم مفوضاً في ذلك المنح حتى يتمكن من انخرط في سلك الجندية أن يعيش من ريع تلك الأرض هو وأسرته.

ويبدو أن مثل ذلك النظام قد ظل متبعاً في مصر طوال حكم الفراعنة وصولا إلى الفترة اليونانية الرومانية، فكان كل جندي يمنح مساحة من الأرض توازي سبعة أفدنة ونصف الفدان، وكان الجنود معفيين من الضرائب التي تفرض على سواهم؛ كما كانوا يعفون من أعمال السخرة متى وجدت، وكان أكثرهم لا يملك ثروة أخرى غير قطعة الأرض التي تمنح له، فكانوا يعيشون مثل أي فلاح يزرعون ويحصدون حتى إذا قامت حرب أو استدعوا لحملة تركوا الأمر لذويهم، ويمموا صوب الميدان، ويعتقد العلماء أن الأرض لم تكن تترك لهم فترة طويلة من الزمن حتى لا يركنوا إلى الراحة ويصعب عليهم ترك الأرض بعد استيطانها، وكانت أسماؤهم تدون في سجلات خاصة مع بيان بما يملكه كل واحد منهم، وكان هناك كاتب حربي مختص بذلك الأمر أي توزيع الأرض وتسجيل الامتيازات، وعليه قيادة الجند من الإقليم الخاص بسجله.

وللحديث بقية
محمد جراح

محمد جراح؛ روائي وباحث وإعلامي مصري
عضو اتحاد كتاب مصر

هوامش

(1) يعتقد أن الملك أوناس أرسل أيضاً أسطولاً إلى شواطىء فينقيا (؟) ، كما أنه أرسل حملات إلى بلاد بونت ” وهي المنطقة التي تشمل بوغاز باب المندب والشاطئين الأفريقي والأسيوي وتضم الصومال واريتريا وجنوب الجزيرة العربية ” اليمن “وعادت محملة بالبخور والتوابل والذهب وغير ذلك من الأشياء التي خرجت من أجلها الحملة

(2) وني : تولى عدة مناصب هامة فبدأ حياته في عهد الملك تتي في وظيفة بسيطة ، ثم تقلد منصب مدير مكتب الزراعة ومدير أراضي الملك ، وأسندت إليه بعد ذلك وظيفة قاضي مدينة ” نخن ” ورئيساً لمجلس الستة بلغت ثقة الملك فيه أن كلفه بالتحقيق في موضوع يخص زوجة الملك، وكان من بين مناصبه منصب قيادة الجيش الذي جمعه من كل أرجاء مصر ومن النوبة واتجه به ناحية فلسطين ، ثم ذهب إلى فلسطين لمرة ثانية لإخماد ثورة هناك وفي تلك الحملة تم استخدام الأسطول إلى جانب الجيش البري .

(3) سليم حسن : مصر القديمة ، الجزء الثاني ، الهيئة المصرية العامة للكتاب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى