أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ «الموقع» خارج النص..محاولة لفهم الجيل (Z)

كانت المرة الأولى التي أسمع فيها عن تلك الوظيفة، عندما جاءتني ابنتي قبل عدة سنوات لتسألني عن معنى “يوتيوبر”، كان من السهل أن أخمن اشتقاق الكلمة من موقع الفيديوهات الشهير “يوتيوب”، لكن الأمر تطلب بعضا من البحث كيف أفهم أبعاد تلك الوظيفة الجديدة التي باتت حلم الكثير من الشباب الصغار، ليس رغبة في التأثير او الانتشار، بل طمعا في الثروة السهلة والربح بلا تعب.

الفكرة كانت مثيرة بالنسبة لي، فما أفهمه أن يقدم البعض عبر الموقع الشهير خبرات أو معارف حياتية تراكمت لديهم بعد سنوات من عناء الدراسة أو العمل، يستحق الإنسان بعدها أن يقدم خلاصة العلم أو الخبرة التي امتلكها، حتى ولو كان الأمر من أجل الحصول على المقابل المادي من عائد مشاهدة تلك الفيديوهات، ففي النهاية هو يقدم خدمة حقيقية وعائد تعب وجهد يستحق أن يجني في المقابل تقديرا أدبيا وماديامناسبا عليها، لكن أن يتحول الأمر إلى مهنة والسلام، فيتحدث أي شخص في أي شيء، ثم يتحول الكلام في حد ذاته إلى مهنة، فهذا ما لم أفهمه أو أستوعبه إلى اليوم!!

وتحول الأمر بدافع الفهم إلى محاولة جديدة للبحث في منهج تفكير هذا الجيل الجديد، الذي ينتمي إليه أبنائي وطلابي في الجامعة، فحتى أتمكن من التواصل معهم لا بد من فهمهم، وبالفعل لجأت إلى قراءة العديد من المقالات والدراسات عن مواصفات ذلك الجيل الذي أصطلح على تسميته بالجيل (زد) أو (Z Generation) وهو الجيل الذي ولد أفراده في الفترة من عام 1995 إلى العام 2015، وما يجمع مواليد هذا الجيل أنهم جميعا أبناء عصر التكنولوجيا، الذين لم يتصوروا أن يكون العالم بدون مخترعات العصر الحديث، وأبرزها شبكة الإنترنت.

طبعا أنا من الشريحة الأولى لمواليد الجيل السابق (Y Generation) (مواليد الفترة من 1980إلى1994)، أو جيل الألفية، الذي عاش تلك المسافة الفاصلة بين عالم ما قبل الإنترنت، وقُدر له أيضا أن يعيش ويعمل وسط صخب عالم ما بعد الإنترنت، وبالتالي كانت هناك الكثير من الاختلافات بين سمات جيلي وبين سمات ذلك الجيل الأحدث.

من أكثرالفوارق بين جيلي والجيل الأحدث،تلك السمات التي يتصف بها الجيل (Z) فيما يتعلق بالاستخدام المفرط للتكنولوجيا والاعتماد عليها كوسيلة للتعلم والعمل واكتساب المعرفة والخبرة، والثقة المبالغ فيها في المصادر الرقمية، وتفضيل المعرفة السريعة السطحية التي لا تجهد العقل، ولا تتطلب وقتا أو جهدا في الحصول عليها، في مقابل العديد من السمات التي يمتاز بها جيلي، والذي يغلب عليه الجمع بين المصادر التقليدية للمعرفة (الكتاب والصحيفة) والجديدة (الإنترنت)، إضافة إلى الاعتماد على القراءة والبحث ومحاولة الفهم والتحليل والتعمق من أجل الحصول على المعرفة واستنتاج الأفكار وإنتاجها، وليس فقط استهلاكها.

وربما تكون تلك الفوارق مفهومة ومنطقية بين جيل أدرك نشأ وتربى في سنوات عمره الأولى معتمدا على المصادر التقليدية للمعرفة، وبين جيل أتاح له زمنه الحصول على كل شيء بسرعة ودون تعب أو جهد كبير، فتحولت السرعة والسطحية سمة مميزة لكل شيء تقريبا في حياة هذا الجيل: المأكل والمشرب والتعليم والعمل والثقافة والترفيه وحتى العلاقات العاطفية… إلخ.. فهذا الجيل يقبل على الوجبات السريعة، وتستهويه الإيقاعات السريعة، ولا يطيق المواد العلمية أو الثقافية المتعمقة، بل تستهويه الملخصات السريعة والنصوص القصيرة، ويميل إلى الصور والفيديوهات على حساب قراءة النصوص أوأداء التطبيقات.

لكن أخطر ما استوقفني في الفوارق بين جيلي والجيل الأحدث،كانت تلك الفوارق المتعلقةبمنظومة القيم، فبينما تربى جيلي وتشارك مع الأجيال السابقة عليه فكرة أن الالتزامات الأخلاقية تحتل أولوية المعايير التي يجب الاستناد إليها عند تقييم الأفراد المحيطين بنا أو تحديد أنماط ومستويات علاقتنا بهم، نجد أن الجيل (Z) يميل إلى التحرر من تلك القيود المرتبطة بالمنظومة الأخلاقية، والاستناد إلى معايير أكثر براجماتية أو عملية، تعتمد على اعتبارات النفع أو المصلحة التي يجنيها من وراء تلك العلاقة.

وهناك أيضا اختلاف جوهري آخر بين الجيلين، يتجسد في النظرة إلى قيمة العمل، ففي الوقت الذي يحتفظ الجيل (Y) بفكرة أن العمل في حد ذاته قيمة تستحق المحافظة عليها والتمسك بها حتى ولو لم يكن العائد المادي هو عنصر المفاضلة الرئيسي مقارنة مع وظائف أخرى أكثر ربحية لكنها أقل قيمة، وبالتالي يميل أبناء هذا الجيل إلى التمسك بالوظائف التي تحتفظ بمكانة اجتماعية معقولة حتى ولو لم تكن تدر ربحا وفيرا مثل وظائف التعليم والتربية والإعلام والوظائف الحكومية، إضافة إلى تقدير الخدمة العامة والأفكار المجردة مثل الانتماء الوطني والعائلي.

في المقابل نجد أن أبناء الجيل (Z)يعطون الأولوية المطلقة للعائد المادي كمعيار للحكم على قيمة العمل أو مكانة الوظيفة، وهي فكرة تبدو منسجمة مع تلك السمات البراجماتية أو العملية التي أشرنا إليها سلفا، وباتت واحدة من أكثر السمات المميزة لأبناء هذا الجيل.

وبالتالي يميل هذا الجيل إلى البحث عن العمل الذي يدر أكبر عائد ممكن، في مقابل بذل أقل جهد ممكن، ومن هنا يأتي إقبال العديد من أبناء هذا الجيل على الوظائف مثل “اليتيوبر” و”الجيمر” (ممارس الألعاب الالكترونية)، والمضاربين في بورصات العملات الرقمية، أو المؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي، وهي كلها وظائف ربما تدر عائدا، حتى لو بدت – في نظر الأجيال الأكبر على الأقل- بلا قيمة تذكر!

هذه الأفكار ليست محاولة للحكم على أبناء جيل يحتلون اليوم موقع الأبناء والأحفاد، وسرعان ما سيتولون – بحكم السنة الكونية لتوالي الأجيال – مواقع أعلى في سلم قيادة الأسرة والدولة والمجتمع، بل هي محاولة للفهم، الأمر الذي ربما يفيد في بناء الكثير من جسور للتواصل نحتاجها اليوم لبناء ثقة مع جيل شاءت ظروفه وطبيعة عصره أن يكون مختلفا في الكثير من السمات والأفكار عما سبقه من أجيال.

وليس معنى سرد تلك السمات أو الخصائص المميزة لأبناء هذا الجيل أن نعتقد أنه لا سبيل للتغيير أو نستسلم ونتركهم وحدهم يواجهون مصيرهم، بل إن ذلك الفهم يدفعنا إلىإدراك أن التغيير والإصلاح يتطلب – إلى جوار الفهم- جهدا مضاعفا منا لحماية عقول أبناءنا، خاصة ممن لا يزلون في طور التعلم واكتساب المعرفة بالعالم المحيط بهم، فهؤلاء من الشرائح التي تفتح وعيها في ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية لم تكن الأنسبأو الأفضل.

وبالتالي فنحن بحاجة إلى العمل بشكل أكثر عمقا وكثافة لإعادة تشكيل عقول هذه الأجيال، لا ليكونوا ظلا باهتا لما تربينا عليه، أو إنعكاسا مشوشا لذواتنا، بل ليكونوا نتاج طبيعي لعصرهم، لكن وفق فهم ورؤية لا تستسلم للسلبيات الكثيرة التي تؤدي إليها تقنيات ومتغيرات زمن الإنترنت، بل لكي نعظم استفادتهم من الفرص التي يتيحها لهم هذا العصر من قدرة على الوصول إلى المعرفة، وسهولة في بناء الخبرات، لكن في ظل معايير وثوابت قيمية وأخلاقية لا تنساق وراء محاولات التسطيح والاختزال التي يميل إليها كل شيء يحيط بالجيل (Z).

من المهم أن نوجههم إلى الطريق الصحيح، ليس بأسلوب التعالي والحكم المسبق وإدعاء الحكمة بأثر رجعي، بل بالنقاش والحوار، والأهم عبر بناء القدوة التي تصلح أن تكون نماذج مرغوبة ومقبولة يسترشدون بها ويستلهمونها في حياتهم التي لا تخلو من صعاب ومزالق، يحتاجون إلى من يمد يده ليعينهم على تجاوزها، لا لمن يدفعهم بغير وعي إلى السقوط في براثنها.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى