أخبارالموقع

«دار الفطرة» و«سماط الخليفة».. كيف بدأت «موائد الرحمن».. ومن صاحب فكرتها؟

أحمد بن طولون أول من أقامها وكان يقوم بجمع كبار التجار والأعيان ويذكرهم بالإحسان والبر بالفقراء

فى عهد المماليك كان السلطان حسن يقدم كل يوم من أيام رمضان 117 ذبيحة

سُميت فى عهد الفاطميين بـ”سماط الخليفة”، ويقومون بتوفير مخزون كبير من الطعام

كتب- أسامة محمود

مع اقتراب شهر رمضان المبارك من كل عام يأتي في الأذهان “موائد الرحمن” والتى تعد من الطقوس والعادات والظاهرة التى يتميز بها شهر رمضان، ويعود تاريخ موائد الرحمن في مصر إلى عهد أحمد بن طولون وهو أول من أقامها، وكان يقوم بجمع كبار التجار والأعيان في مصر في أول يوم من شهر رمضان على الإفطار، ثم يلقي عليهم خطبة يذكر لهم فيها أن الغرض من المائدة أن يذكرهم بالإحسان والبر بالفقراء والمساكين.

وأصل “مائدة الرحمن” أنها تعكس الكرم والجود والترابط الاجتماعى والمودة والمحبة بين أفراد المجتمع، ووفقا لبعض الآراء والروايات ربما تمت تسميتها بهذا الاسم من سورة المائدة، حيث أنزل الله على سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، مائدة طعام من السماء لتكون آية للعالمين.

واختلف عدد من المؤرخين حول بداية موائد رمضان، فمنهم من أرجعها إلى عهد رسول الله صل الله عليه وسلم، ومنهم من أرجعها إلى عصر أحمد بن طولون، وآخرون نسبوها إلى عهد المعز لدين الله الفاطمي، وروايات أخرى تشير إلى بدايتها في عصر هارون الرشيد.

وفي عهد الفاطميين أطلق على موائد الرحمن “سماط الخليفة”، حيث كان العاملون يقومون بتوفير مخزون كبير من الطعام، ليكون كافيا لأكبر عدد ممكن من المصريين.

وكان يُطلق على موائد الرحمن الخاصة بالفاطميين “دار الفطرة”، وكانت تقام الأسمطة 175 مترًا وعرضها 4 أمتار في عهد العزيز بالله الفاطمي، وفي عام 975 م، بعث إلى أمير دمشق يطلب قراصيا بعلبكية، فعاد الحمام الزاجل وفي إبط كل واحدة “حبة قراصيا”.

كان الفاطميون يخرجون من بيوتهم نحو ألف ومائة قدر من مختلف ألوان الطعام لتوزع على الفقراء والمساكين ولتمد بها الموائد، وقلدهم في ذلك الأغنياء وأصحاب الأسر المتوسطة بتجهيز الطعام أمام منازلهم وفي حجرات الاستقبال لانتظار ضيوف الرحمن من الفقراء والمسافرين.

وفي عهد المماليك ظلت فكرة موائد الرحمن قائمة، وكان السلطان حسن يقدم كل يوم من أيام رمضان 117 ذبيحة، لأنه بدأ في تقديم الذبائح منذ أن كان عمره 17 سنة فأضاف عليها مائة واستمر السلاطين من بعده يقدمون الذبائح في رمضان.

واستن الملك الظاهر بيبرس سنة طيبة وهي توزيع عدد من أحمال الدقيق والسكر والمكسرات ولحم الضأن على الفقراء حتى يتمكنوا من تناول الطعام في بيوتهم.

وحسب ما نقل شيخ المؤرخين تقي الدين المقريزي فى أحد كتبه وصف عن سماط رمضان بقاعة الذهب، “حيث تقرر أن يتم عمل 40 صينية حلوى وكعك ويعمل خمسمئة رطل حلوىيتم توزيعها على المتصدرين والقراء والفقراء ثم يجلس الخليفة في القصر، ويتوافد كبار رجال الدولة ويتلو المقرئون القرآن الكريم ثم يتقدم خطباء الأزهر وجامع الأقمر مشيدين في خطبتهم بمناقب الخليفة، ثم ينشد المنشدون ابتهالات وقصائد عن فضائل الشهر الكريم”.

وكذلك في العصر العثماني، انتشرت فيه الموائد أمام البيوت، فكان أمام كل مائدة أمير، وتوسع في ذلك الوالي العثماني عبد الرحمن كتخدا الذي أطلقوا عليه إمام الخيرات.

وموائد رمضان على وجه العموم تحفل بالحلويات والمشروبات وغيرهما التى سجلتها بعض الأغنيات التى يقول مطلعها : “جبت لنا معاك الخير كله، من الصبح نقوم ونحضر له، بالقمر الدين وبلح على تين ، من المغرب للمدفع واقفين”.

ويعد الفول أول الأطباق ولا تكاد تخلو منه مائدة رمضان ، ويتفنن المصريون في عمل أصناف منه حيث تحرص عليه كل أسرة وخاصة في السحور، ومن أشهر الحلويات : الكنافة ، القطايف ، أم على ، اما المشروبات فأشهرها العرقسوس و الكركدية، التمر الهندى، قمر الدين، الخروب.

كان يعهد فيه للقضاة بالطواف بالمساجد في القاهرة وباقي الأقاليم، لتفقد ما تم إجراؤه فيها من إصلاح وفرش سجاجيد جديدة وتعليق المسارج والقناديل، حتى إن الرحالة “ناصر خسرو” الذي زار مصر في القرن الخامس الهجري وصف “الثريا” التي أهداها الخليفة الحاكم بأمر الله إلى مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط، بأنها كانت تزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة.

وكان يوقد به في ليالي المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل، وكان يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض، وما إن ينتهي شهر رمضان حتى تعاد تلك الثريا والقناديل إلى مكان أعد خصيصا لحفظها فيه داخل المسجد، كما أن الدولة في ذلك الوقت كانت تخصص مبلغًا ماليًا لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر الصوم.

من أشهر الأسواق التي كانت تنشط فيها الحركة التجارية خلال رمضان، سوق الشماعين بالنحاسين، كان موسما لشراء الشموع الموكبية التي تزن الواحدة “عشرة رطل” فما دونها، وكان الأطفال يلتفون حول إحدى الشموع وبأيديهم الفوانيس يغنون ويمضون بموكبهم المنير في الحواري بعد الإفطار حتى صلاة التراويح، أما “سوق الحلاويين”، فكان من أبهج الأسواق بالنسبة للمصريين في ذلك الوقت، كان يصنع فيه أشكال خيول وسباع من السكر تسمي “العلاليق”.

وكان هناك أيضًا سوق السمكرية داخل باب زويلة “بوابة المتولي بالغورية”، يعج بأنواع الياميش، وكانت وكالة “قوصون” شارع باب النصر التي ترجع إلى القرن الثامن الهجري مقر تجار الشام ينزلون فيها ببضائع من الزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخروب، وعندما خربت وكالة “قوصون” في القرن التاسع انتقلت تجارة المكسرات إلى وكالة “مطبخ العمل” بالجمالية، وكانت مخصصة لبيع أصناف النقل كالجوز واللوز.

لم تكن مظاهر الاحتفال وما يقدم على الموائد فحسب، بل كان لها تقاليد رسمية، فقد كان الخليفة يخرج في مهرجان إعلان حلول رمضان من باب الذهب “أحد أبواب القصر الفاطمي”، متحليًا بملابسه الفخمة وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المطعمة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملونة، وأمامهم الجنود تتقدمهم الموسيقى، ويسير في هذا الاحتفال التجار صانعو المعادن والصاغة، وغيرهم الذين كانوا يتسابقون في إقامة مختلف أنواع الزينة على حوانيتهم فتبدو الشوارع والطرقات في أبهى زينة.

كان موكب الخليفة يبدأ من “بين القصرين”، شارع المعز حاليا، يسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح ” أحد أبواب سور القاهرة الشمالية”، ثم يدخل من باب النصر عائدًا إلى باب الذهب بالقصر، وفي أثناء الطريق توزع الصدقات على الفقراء، وحينما يعود إلى القصر يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن في مدخل القصر ودهاليزه، حتى يصل إلى خزانة الكسوة الخاصة، فيغير ملابسه ويرسل إلى كل أمير في دولته طبق من الفضة الخالصة مملوء بجميع انواع الحلوى، تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية، وتوزع الكسوة والصدقات والبخور وأعواد المسك على الموظفين والفقراء، ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عاداته، وعقب انتهائه من ذلك يأمر بأن يكتب إلى الولاة والنواب بحلول شهر رمضان.

كان الخليفة الفاطمي يصلي أيام الجمعة الثلاث في رمضان، الثانية والثالثة والرابعة على الترتيب، يصلى الجمعة الثانية في جامع “الحاكم بأمر الله”، الثالثة في الجامع الأزهر، أما الرابعة التي تعرف بالجمعة اليتيمة كان يؤديها في جامع “عمرو بن العاص”، وكان يصرف من خزانة التوابل ماء الورد والعود لبخور موكبه، وعقب صلاة الجمعة الأخيرة يذاع بلاغ رسمي كان يعرف “بسجل البشارة”، وآخر ليلة من الشهر الكريم كان القراء والمنشدون يحيونها في “القصر الشرقي الكبير” ويستمع لهم الخليفة من خلف ستار، وفي نهاية السهرة ينثر على الحاضرين دنانير الذهب.

وقد استمرت موائد الرحمن مرتبطة بشهر رمضان عبر العصور الإسلامية المختلفة وظل الأغنياء يتسابقون إليها كل عام، ويعدون لها العدة حتى تطورت ووصلت لوقتنا هذا، حيث يقوم الأغنياء بإعداد موائد الرحمن لكل المحتاجين وعابري السبيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى