أراء ومقالاتالموقع

أمــل الجمل تكتب لـ«الموقع» رغم الحرائق مهرجان «قابس سينما فن» يُنجز دورته الرابعة بنجاح لافت

«على قد ما أظلمت.. على قد ما هانت..» أو كما تقول باللهجة التونسية: على قد ما ضلامت على قد ما هانت، علا قد ما خانت الدنيا نا قلبي صفاء،،،»

هكذا ارتفع صوت مغني الراب عمر الطويهري التونسي العالمي – الشهير بــ«جنجون» – بالغناء بكلمات تُغذي روح المقاومة، وذلك بحفل افتتاح مهرجان «قابس سينما فن» في دورته الرابعة التي امتدت بالفترة من ٦- ١٢ مايو الجاري، وهى الدورة التي شهدت أحد أجمل أشكال المقاومة، وغرست الأمل في قلوب الكثير من الجابسيين ـ نسبة إلي قابس كما ينطقها أهل تلك المدينة الشهيرة بامتلاكها أحد أهم وأجمل الواحات علي شاطىء البحر المتوسط، والتي يصفونها بجوهرة الجنوب.

لماذا المقاومة؟ لأنه إضافة إلي دور المهرجان الذي لعبه على المستويين التثقيفي والتوعوي على مدار السنوات الأربع الماضية، فقد أصر منظموه على أن يُطفئوا نار الحسرة والوجع التي اشتعلت في قلوب الكثيرين من التونسيين بعد اندلاع نحو ٢٨ حريقاً في مدن مختلفة – قيل أنها بفعل فاعل، وأن وراءها تناحرات سياسية – كان من أبرزها حريق «سوق الحناء» الأثري في ولاية قابس، الشهير بسوق «جارة» للصناعات التقليدية بوسط المدينة، والذي يُعد من أهم المناطق السياحية ليس فقط لما يُرَّوّج فيه من صناعات ومنتجات تقليدية، ولكن، أيضاً وأساسا، لطابعه المعماري التاريخي والأثري المتميز.

هند صبري تحضر مع الجمهور أفلاما مصرية
المقاومة لم تكن فقط من خلال التكاتف لدعم ومساندة هؤلاء الأهالي، الذين خسروا محلاتهم ومصادر رزقهم، حيث أشارت بعض الإحصائيات إلي أن 30 بالمائة من المحلات تعرضت إلى أضرار بليغة. ومن ثم كانت هناك حملة تبرعات، واهتمام إعلامي، وزار المكان عدد من الفنانين من ضيوف مهرجان (قابس سينما فن) المشهورين بالتزامهم تجاه قضايا وطنهم، وفي مقدمتهم ظافر العابدين وهند صبري ومجد مستورة وغيرهم من الفنانين. فأحد أصحاب محلات الزيتون التي تشتهر بها تونس أخبرني بفرح وفخر قائلاً: «ظافر العابدين زارنا هنا وتحدث معنا.»

مع ضرورة التوضيح بأن فيلم ظافر العابدين «غدوة» لم يكن داخل المسابقة الرسمية بالمهرجان، وإنما أُقيمت له عروض خاصة كانت جميعها «سولد أوت» حتي أن بعض الصحفيين والنقاد لم يجدوا تذاكر للحضور، وهو ما يعني أن هذا الفنان الكبير الذي يخوض تجربته الأولي في الإخراج والإنتاج لا يهتم بالجوائز بقدر ما يشغله أن يشاهد فيلمه أكبر عدد من أبناء وطنه. والأمر ذاته ينطبق على النجمة هند صبري الرئيس الشرفي للمهرجان والتي رحبت بدعم «قابس سينما فن» منذ مولده، والتي اختارت للجمهور التونسي في هذه الدورة فيلمين مصريين وقد دعت الجمهور لحضورهما بصحبتها تحت عنوان «تعالا شوف» وهما «الأرض» ليوسف شاهين، و«البداية» لصلاح أبو سيف، وكان العرضين أيضاً «سولد أوت» وتجاوب الجمهور بشغف وترحاب كبيرين مع نجمتهم المحبوبة.

المقاومة: لأن عائلة الكيلاني – ممثلة في السيدة فاطمة الكيلاني والأخوين أسعد ورفيق الكيلاني – يُصرون بحماس على مواصلة دعم المهرجان سنويا رغم التحديات البيئية والاقتصادية والثقافية التي تشهدها قابس، فهذه العائلة تدعم المهرجان ماليا بنحو مالا يقل عن٦٠٪ من ميزانيته – وفق ما ذكره لي الناقد السينمائي د. إقبال زليلة المدير الفني لقسم السينما بالمهرجان – ومع ذلك يرفض الأخوين الكيلاني الحديث لوسائل الإعلام عن ذلك الدور، لكنهم دائمي التواجد في كثير من الفعاليات بالمهرجان، ويثيرون النقاشات، ويتحدثون عن مشاريعهم السينمائية المستقبلية ومنها افتتاح عدد من دور العرض السينمائي بمدن آخرى قبيل نهاية هذا العام، إضافة إلي استكمال ترميم القاعة الحالية في بناية «لاجورا»، كذلك قيامهم بترميم منزلي الأب والجدة ليكون كل منهما سكناً فندقياً – للمهرجان في الأعوام القادمة – مع الحفاظ علي طابعهما الجابسي التقليدي الجميل، وقد شهد أحدهما تنظيم اللقاءات الإعلامية مع النجم التونسي ظافر العابدين مخرج «غدوة»، ومع النجمة المصرية إلهام شاهين، كذلك مع الرئيس الشرفي للمهرجان النجمة هند صبري.

السينما أداة تحرر وتقدم
المقاومة: لأنه المخرجة التونسية فاطمة الشريف رئيس المهرجان رغم أنها كانت تعمل على فيلم وثائقي جديد لكنها أجلت عملها عليه لأجل إنجاز تلك الدورة – بالتعاون المنسجم مع جميع فريق العمل بشكل مُدهش حقاً – وكنت أراها تؤجل اللقاءات الإعلامية كثيراً لانشغالها بتفاصيل عديدة في تلك الدورة، حتى أنه قبيل مغادرتنا للمهرجان حينما اقترحنا عليها أنا وزميلي المخرج محمد حريره – بقناة نايل سينما – أن نصطحبها للتصوير معها على شاطيء البحر بجوار كورنيش الكازما – حيث تُقام هناك عروض الفيديو – رحبت قائلة وهى تضحك بطفولة ومرح حقيقي: «أول مرة منذ بدء فعاليات المهرجان أخرج من بين القاعات والنقاشات.»

وهذا الإخلاص والشغف ليس غريباً على فاطمة الشريف فقد نشأت في بيت يجمع بين السينما والفنون والسياسة، وولديها التزام متين تجاه أبناء وبنات وطنها. وقد أثبتت الأيام السبع لجميع الفعاليات من الدورة الرابعة صدق تصريح فاطمة الشريف في كلمتها بحفل الافتتاح، بأنه: «في هذه السنة نواصل الالتزام بخياراتنا والرهان على أهدافنا بأن تكون السينما أداة تحرر وتقدم.» وبالفعل قدم المهرجان برمجة ثرية متنوعة تركز على سينما المؤلف وتٌخلص لدوره، مثلما تثير مئات التساؤلات الفكرية وعلامات الاستفهام من حول بنائها الفني، وكأن تلك الخيارات بالفعل تُراهن على عوالم سينمائية ومسارات جمالية تختلف عن السائد.

المقاومة: لأن كل مسئول بهذا المهرجان يُؤمن من قلبه بالدور الفاعل للسينما – حتى وإن كان تأثير هذا الفن السابع يأتي تدريجيا وعلى مراحل زمنية طويلة – بدءا من مدير قسم المواقع الافتراضي محمد العربي صوالحية الذي تفادى ملاحظات العام الماضي فوفر في البرمجة أفلاماً تناسب الأطفال واتاح فرصة التنوع في البرمجة اليومية، ورباب المباركي رئيس قسم الأرض التي لم تكتفي باختيار برمجة تتعلق بالبيئة ومشاكلها ولكنها نظمت عملية تخييم في الواحة – القابسية الشهيرة- في مشهد سينمائي بديع، حيث وُضعت آنيات للشموع على امتداد الطريق من بوابة الدخول للواحة وحتى موقع شاشة العرض التي التف حولها حشد من أهالي الولاية، وعرضت بعض الأفلام المتعلقة بالبيئة وبين كل عرض وآخر أُتيحت الفرصة لعدد من فلاحي وأهالي قابس للحديث عن تجاربهم المتميزة مع الزراعة بشكل يفيد البيئة.

التصنيفات غير البريئة وكسر الحدود
كذلك يأتي دور المدير الفني لقسم السينما بالمهرجان إقبال زليلة، ليس فقط باختياراته للأفلام المغايرة للسائد والمنتمية لسينما المؤلف، لكن أيضاً باختياره للشخصية المكرمة المتمثلة في المخرج اللبناني غسان سلهب، والذي يستحق مقالا كاملاً عنه، إضافة إلى اختيار تيمة الدائرة المستديرة التي تتماهي مع خصوصية المهرجان الذي يتجاوز الحدود بين فن السينما والفيديو والواقع الافتراضي، والتي استمرت على ثلاث جلسات حول موضوع «السينما وفن الفيديو: حدود، تقاطعات، توترات خلاَّقة.» وهى الندوة التي شهدت مداخلات بإيقاع شديد الثراء والعمق، وكان من بينها ما طرحه الفنان اللبناني ربيع مروة عن كون هذه التصنيفات غير بريئة بالمرة، مشيراً إلي دور الرقيب، والدور الاقصائي لبعض الفنون والفنانين من خلال تلك التصنيفات، وكيف أن أعماله عانت من الرفض في البداية فقد أنكرها البعض، فمنهم من قال هذا مسرح، وهذا ليس مسرح؟ لكن ربيع مروة أصر على مواصلة نهجه، وتجاربه، من دون أن يتخلى عن مساءلة نفسه: لماذا يصنع هذا الفن؟، مؤكدا على أن الفنان عليه أن يُقرر، تماما كما تفعل السلطة وتٌقرر.»

ختاماً، الحقيقة، وفي تقديري الشخصي، أن كافة عناصر وأقسام هذا المهرجان تتكامل مع بعضها البعض، وتجعلنا نُعيد مساءلة أنفسنا حول الصورة، والسينما. هكذا فعلت معي أنا شخصياً إذ فتحت في عقلي وقلبي أبوابا مفتوحة على النقاش وإعادة التفكير بحرية ومرونة، مما يذكرني بما قالته لي فاطمة الشريف في حواري معها: «أنا في لقائاتي مع المتطوعين أقول لهم: أنا لقائي مع السينما غير لي حياتي، وكان لقاء جميل كثيراً. في السينما تجد حالك في كثير من الأفلام، كما تقرأ كتاب، ممكن يكون عندك تساؤلات تلقاها في كتاب أو فيلم، فيُعطيك طريقة تفكير أو يُحيي تساؤلات بداخلك. فأنا كان عندي حظ كبير في الحياة التي أتاحت لي هذا اللقاء مع السينما، ومع الفن، ونعرف أن السياسات الثقافية في تونس لاتسمح ولا تعطي الفرصة للشباب وللناس أن يكون عندهم اللقاءات هذه. هنا، يأتي دورنا، أن نُتيح مثل هذه اللقاءات بين الناس وبين الفن والسينما، لكي يُبدعوا.. فإن التقوا بها نقول الحمدلله، فإن لم يحدث سيبحثوا عن أشياء آخرى تغذيه.»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى