أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع» خارج النص..احتفالات استعادة الهوية المصرية

رغم أن الانطباعات السريعة التي تعقب أي حدث، ربما تكون أكثر صدقا وتلقائية، إلا أنني أميل غالبا إلى تأمل الأحداث بصورة تحاول الذهاب إلى ما هو أبعد مما تبدو عليه للوهلة الأولى، والحقيقة أن النجاح المذهل للدولة المصرية في تنظيم احتفالين عالميين بهذا المستوىالراقي في فترة زمنية وجيزة، وهما الاحتفال بنقل المومياوات الملكية من المتحف المصري بالتحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط، ثم الاحتفال بتدشين طريق الكباش الرابط بين معبدي الكرنك والأقصر، هو أمر يتجاوز في معناه ومغزاه مجرد تنظيم احتفالية فنية أو سياحية.

الاحتفالان المبهران فنيا وتنظيميا يمثلانخطوة نحو هدف أسمى وأعظم من مجرد الترويج السياحي، فلو كان الهدف هو السياحة، لربما اقتصر الأمر على تنظيم حملة دعائية في وسائل الإعلام العالمية كما كان يحدث على مدى سنوات طويلة ماضية.. الهدف الحقيقي– كما أراه- هو إعادة بناء الهوية المصرية، والتركيز على معانٍ عميقة ساهمت تشوهات الفكر وفوضوية السياسة، وترهلات الحكم وضبابية الرؤية على مدى عقود طويلة في طمسها ومحاولة إرباك الشخصية المصرية، وإفقادها ثقتها في نفسها وفي عمقها الحضاري وقدرتها على البناء والإنجاز.

الهدف الأسمى لمثل تلك الفعاليات الكبرى ليس مجرد تقديم صورة ملونة لأثارنا القديمة التي وللأسف الشديد- يعرف الأجانب عنها أكثر مما نعرف وندرس (!!)، لكن الهدف الحقيقي كان نفض التراب الذي راكمته سنوات الارتباك والاضطراب والانشغال على الشخصية المصرية، ففصلتها عن عمقها الحضاري، وجعلتها شخصية تابعة إما لقوى أجنبية لا ترى في مصر والمصريين سوى ثمرة يانعة يسهل التهام خيراتها، أو تابع مقلد دون وعي لتيار التغريبالذي لا ينظر إلى التحديث سوى من زاوية التقليد.

وفي مراحل تالية جاءت محاولة فصل المصريين عن عمقهم الحضاريباسم الدين، فجرت العديد من المحاولات لترويج فهممتشدد للدين، يتجاهل ميراث المصريين التسامحي في خدمة جميع الأديان السماوية، وخاصة الإسلام.

وشهدت العقود الماضية ظهورا مريبا لتياراتلا ترى في الدين سوى أداة للسيطرة وإنتاج قطعان من التابعين العميان، وتجاهل اعتباره قوة دفع حضارية لإعمار الكون بالعمل الصالح دينيا ودنيويا وتصالح الإنسان مع واقعه، وليس الارتداد إلى الماضي.

أما أخطر محاولات فصل المصري عن عمقه الحضاري، فكانت بالسعي إلى تكريس قيم الفهلوة والانتهازية وسيطرة محدودي الفكر والوعي، وإرساء شعارات “أهل الثقة على حساب أهل الكفاءة والخبرة”، وترسيخ عقيدة “الولاء للشلة”، بدلا من “الولاء للوطن”!! وأتصور أن ذلك المنهج لم يسفر فقط عن صعود نماذج شاذة وشخصيات مشوهة فكريا ومهنيا ونفسيا، لكنه أدى إلى إزاحة الكثير من المبدعين الحقيقيين وذوي الكفاءة الصادقين عن المشهد واحتلال المكانة التي يستحقونها، لأنهم لا يجيدون الأساليب الملتوية التي يتقنها محدودو الكفاءة والموهبة، والذين لا يجدون لأنفسهم فرصة للوجود إلا في أجواء التآمر، ومناخ الاضطراب والفتن، ولا يصعدون سوى بدعم هائل من “الشلة”، فهم يدركون أن مكانهم المنطقي في الأحوال الطبيعية هو مؤخرة الصفوف، بينما يتصدر المشهد في ظل الظروف الطبيعية المبدعون والمؤهلون وأصحاب العلم والخبرة.

تأملوا تاريخ مصر، ومراحل صناعة قوتها الناعمة لندرك الأعمدة الأساسية التي قامت عليها تلك الدولة القوية، فعندما يثق الإنسان المصري بنفسه، وعندما يشعر أنه صانع للحضارة وليس مجرد تابع، وعندما تتوافر لهذا الشعب قيادة قوية، تعمل لخدمة الوطن، وإدارة تستعين بالكفاءات والخبرات، وتعطي من يستحق ما يستحق، فإن هذا الشعب يستطيع أن يقهر المستحيل.

انظروا إلى ما تركه المصريون القدماء من آثار عريقة لا تزال تبهر العالم، كيف بنيت بأيدي أكفأ المهندسين والعمال من أبناء هذا الشعب؟ وتأملوا إسهامات المصريين في الفكر والفن والفقه والعلوم والحرف المختلفة عندما كانوا يشعرون باستقلالهم الوطني، واحترامهم لعمقهم الحضاري، وانظروا كذلك في المقابل إلى عصور الوهن والضعف والتراجع التي كان “يتقوقع” فيها الإنسان المصري على نفسه، عندما يتحول إلى تابع أو أداة لخدمة مستعمر، أو يتم إفقاده ثقته في نفسه، وكيف كان يستخدم جينات الحضارة المتوارثة ليس للبناء والعمران، بل للبقاء على قيد الحياة والسخرية من مستغليه وإهانتهم، انتظارا للحظة انتفاض حقيقية يستعيد فيها شخصيته ويسترد فيها دوره.

تفكروا في تلك الرمزيات اللافتة التي تتجاوز في معناها ومغزاها مجرد عناصر في احتفالات إستعادة الهوية المصرية، ومنها مثلا تلك اللوحة التي توقف أمامها الرئيس ووزير السياحة والآثار بمعبد الأقصر، وتوضح أن سر قوة مصر هو وحدة شعبها، وتأمين تدفق مياه النيل، أليس ذلك درسا استراتيجيا في دور الحاكم والشعب عبر آلاف السنين؟ أليس دور الحاكم القوي في مصر كان دوما الحفاظ على الوحدة الوطنية بكل معانيها السياسية والدينية والاجتماعية، وكذلك تأمين تدفق مياه النيل واهب الحياة للأرض المصرية؟أليس ذلك رسالة بالغة الدلالة لمن يريد أن يفهم سر قوة مصر، كما تكشف لنا كيف أتقن خصومنا قراءة هذه الحقائق، فعملوا دائما من أجل إضعاف مصر على اختراق وحدة نسيجها الوطني والاجتماعي، أو العبث بملف النيل، أو كليهما معا!!

انظروا إلى تعانق معبد الأقصر مع الكنيسة والمسجد، وتأملوا انتقال جثامين أعظم ملوك وملكات مصر القديمة إلى الفسطاط عاصمة المسلمين الأولى في مصر، لتدركوا أن تاريخ المصريين لا يعرف التصارع، بل يجيد تطويع تحولات التاريخ وتوظيف تغيراته وتبدلاته لتكون سطرا في صفحاته، وأن محاولات إشعال الصراعات بين هوياتنا التاريخية قد تشغلنا لفترة، لكنها لن تفلح في هزيمة لحظات الوعي التي تأتي ولو بعد حين.

أعظم ما يمكن أن تحققه احتفالات استعادة الهوية المصرية، والتي رأينا منها حتى الآن حلقتين فقط في نقل المومياوات الملكية وتدشين الأقصر كمتحف عالمي مفتوح، هي أن تعيد إلى المصريين وعيهم بثراء تاريخهم، أن تجعلهم أكثر ثقة في أنفسهم، أن تشعل في قلوب وعقول أطفالنا وشبابنا شغف التعرف على هويتهم الحقيقية، بعيدا عن محاولات التضليل والتعمية والطمس التي تحاول أن تزرع في قلوبهم الندية بذور الكراهية والاغتراب عن مجتمعهم، فيسهل بعد ذلك اقتناصهم واستخدامهم كأدوات للتخريب، بدلا من أن يواصلوا كما فعل أجدادهم في كل حقب التاريخ البناء والعمران.

آخر المعاني التي أريد أن أتوقف أمامها من وحي احتفالات استعادة الهوية المصرية، هو ذلك الدور الذي لا غني عنه للدولة وأجهزتها الرسمية، واستعادة حضورها الحيوي في مجالات وقطاعات بناء الفكر والثقافة والهوية، فهذه أمور أكبر وأعظم من أن نتركها لعبة بين أيدي سماسرة التلاعب بالوعي وبيع المخدرات الفكرية، ممثلة في أغان وموسيقى ودراما وأدب رديء! استعادة الهوية المصرية والارتقاء بذوق المصريين مهمة وطنية وعمل استراتيجي يرقى إلى أن يكون أمنا قوميا، يجب أن تُحشد له الجهود، وتُسخّر له الإمكانيات، لأن عقل الأمة ليس سلعة تباع وتشترى.

تخيلوا هل كان من الممكن للقطاع الخاص أن يقدم حفلا بهذا الرقي، أم كان سيكتفي مثلما يفعل مليارديرات مهرجانات الفساتين العارية وأغاني التوكتوك بتقديم المزيد من بضاعتهم الفاسدة وأعمالهم الهابطة التي يحاولون فرضها على جموع المصريين باعتبارها “ثقافة شعبية” طمعا في صخب وضجيج من يدفعون أسعار التذاكر ويغيبون عن الوعي تحت تأثير أعمالهم الرديئة التي لا تختلف في خطورتها عن المخدرات!!متناسين أن هذا الشعب كان يوما ما يلتف حول الراديو ليستمع إلى “أراك عصي الدمع”، و”الأطلال” و”نهج البردة”، وها هو يمكن أن يستمتع بموسيقى راقية وأعمال فنية مبدعة، إن وجد إلى ذلك سبيلا.

وعي وعقل وذوق الشعوب لا ينبغي أن يكون سلعة يحتكرها تجار السوق السوداء وسماسرة المقاولات وإفرازات مرحلة الانفتاح “السداح مداح”، بل ينبغي أن يبقى الأمر أمانة في عنق الدولة، ورسالة لا تتهاون في أدائها على أكمل وجه، وإلا سيكون ثمن التفريط فادحا!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى