أراء ومقالاتالموقع

د. أسامة السعيد يكتب لـ”الموقع” خارج النص..مرآة الإعلام .. المشروخة!!

في كل مرة أقوم فيها بشرح أهمية الإعلام لطلابي، أتوقف كثيرا عند عبارة أن “الإعلام مرآة المجتمع”..هي عبارة توارثناها عن أساتذتنا، وترددها معظم الكتب والمراجع العلمية، نقلا بالطبع عن مصادر أجنبية تتحدث بعمق عن كيفية انعكاس أحوال المجتمع في مرآة الإعلام، وعن دور وسائل الإعلام المختلفة في تلخيص العالم لجمهورها المستهدف، فيراه بحلوه ومره، وتحاول تلك الوسائل أن تقدم فهما أعمق لكل ما يدور حول ذلك الجمهور ويؤثر على حياته.. هكذا تعلمنا وهكذا ننقل الرسالة إلى أجيال جديدة من الإعلاميين.

لكن هل حقا بات ما تقدمه وسائل الإعلام المختلفة مرآة حقيقية لأحوال المجتمع، أم أن شروخا عديدة باتت تغطى ذلك الوجه اللامع لصفحات وشاشات مختلفة الأنواع والأحجام والألوان والتوجهات، فغاب الانعكاس الصافي لأحوال المجتمع، وباتت الصورة مهزوزة، غائمة وغامضة وأحيانا مشوهة!!

أتفهم جيدا أن مزاج الجمهور يتحول من فترة إلى أخرى، وأن وسائل الإعلام مضطرة إلى مراعاة ذلك المزاج المتقلب الذي يتبدل بفعل مجموعة كبيرة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحولات التركيبة السكانية والعمرية للجمهور المستهدف، لكن وفق أية معايير يعرف القائمون على صناعة المحتوى في سوق الإعلام أن ما يقدمونه لنا عبر كل الوسائط المطبوعة والالكترونية والسمعبصرية هي تعبير حقيقي ودقيق عن رغبات الجمهور وتحولاته، فضلا عن ترجمتها لأولوياته؟!
وحتى لا أكتفي بتقديم التساؤلات فقط، فإنني أجيبكم من واقع خبرة -عملا ودراسة- بهذا المجال تقترب من الربع قرن بتلك الوسائط جميعا، وهي أنه لا توجد أدوات علمية يمكن الاعتماد عليها في القياس وبناء المحتوى، وأن الأمر لا يعدو أن يكون اعتمادا على ذائقة القائمين على إنتاج المحتوى إعدادا وتقديما، وفي معظم الأحيان رغبته في تقديم “شيئ مختلف” عما يقدم في الوسائط الأخرى.

والإختلاف هنا سيكون له معنى إيجابي، لو كان يستهدف التميز، ومناقشة أولويات الجمهور من زوايا إبداعية جديدة لا تسقط في فخ التكرار أو التقليد، لكن للأسف الشديد الاختلاف الذي يحرص كثير من مقدمي المحتوى الإعلامي على تقديمه لا يتجاوز عتبة تقديم كل غريب ومثير، حتى لو كان في بعض الأحيان نادر الحدوث أو متدني القيمة، أو لا يتجاوز كونه حالة فردية لا تعبر بأي حال من الأحوال عن طبيعة المجتمع وأنماطه وقيمه الأساسية.

ومن هنا يبدأ طوفان المحتوى الغث، الذي لا يعبر سوى عن رغبة في الانسياق وراء معيار “إذا عض الرجل كلبا” للحكم على جاذبية المحتوى، فكثرت عضات الرجال للكلاب من أجل استقطاب اهتمام الإعلام، واحترف البعض من الإعلاميين ومحبي الظهور استخدام تلك “العضات” ليغازلوا رغبات الجمهور القابع على صفحات السوشيال ميديا يتابع سيلا من التفاهات التي تمتلئ بها تلك المنصات التي أصابت الناس بجنون البحث عن كل غريب ومثير وشاذ، حتى ولو كان من قبيل التندر والسخرية.
وبدلا من أن يقدم الإعلام الوجه الآخر للعملة، ويسعى إلى أن يجتذب جمهور السوشيال ميديا من حصار “اليوتيوبرز” وسماجات المتفننين في كشف أستار البيوت، وهواة التعري أمام الكاميرات بحثا عن بضعة آلاف أو حتى ملايين من المشاهدات، انزلق الإعلام الجاد إلى ملعب لا يجيد اللعب على أرضه، تخفف من ملابسه، متصورا أن شكله الجديد سيجذب ذلك الجمهور العريض الذي بات راغبا عن متابعة ما صار يسمى بـ”الإعلام التقليدي”!

وتحول التخفف من الشكل القديم إلى “تعر” في بعض الأحيان، وكانت نتيجة ذلك اللهاث غير المحسوب وراء تقليد ما يجري على السوشيال ميديا، هي فقدان الهيبة، وضياع القيمة، وانحسار التأثير، فلا الجمهور القديم أعجبه ما باتت تطفح به الشاشات من محتوى يراه مبتذلا، ولا الجمهور الجديد أرضاه نفس المحتوى، وقد اعتبره محاولة بهلوانية ثقيلة الظل لاجتذابه، فكانت النتيجة انصراف الجمهورين عن المتابعة!!
وأعتقد أن أسبابا كثيرة تقف وراء أزمة فقر المحتوى في الكثير – ولا أريد أن أقول الغالبية – من منصاتنا الإعلامية، على اختلاف تنوعاتها وأنماط ملكياتها وتخصصاتها، حتى بات البحث عن محتوى يجتذبك لفترة أمرا غير هين. بعض تلك الأسباب يرجعه صناع المحتوى الإعلامي أنفسهم إلى تشبع الناس من الرغبة في متابعة أحداث سياسية أو ثقافية أو قضايا جادة، ورغم إدراكي لوجود تحولات زمانية تعتري ميول وأولويات الجمهور في فترة ما، إلا أنني لا أثق بشكل مطلق في صحة ذلك الزعم، فالإبداع والمهنية والمصداقية قادرة على اجتذاب الجمهور إلى متابعة المحتوى، وما يدفع الجمهور – أي جمهور- لمتابعة محتوى إعلامي هو صدق وفائدة المحتوى بالنسبة إليه، علاوة على جاذبية العرض وإبداعية التقديم.

وحتى لو سلمنا جدلا بأن الناس لم تعد لديها تلك الرغبة القديمة في متابعة محتوى جاد، فحتى المحتوى الترفيهي لم نستطع تقديمه بشكل جذاب أو قادر على إضافة قيمة حقيقية للقراء أو المشاهدين والمتابعين، وأسوق لكم دليلا أهدته لي الصدفة البحتة، فقد شاءت الظروف في أحد أيام الأسبوع الماضي أن أستمع صباحا عبر إذاعة صوت العرب لتسجيل قديم لحوار فني في برنامج كان يقدمه الإذاعي وجدي الحكيم، ويتضمن حوارات مع نجوم الفن والفكر والثقافة من مختلف التخصصات، وجاءت حلقة ذلك اليوم لتتضمن حوارا مع الفنانة المبدعة “شادية”، ويبدو أن وجدي الحكيم أراد التجديد في شكل برنامجه، فقرر أن يكون اللقاء عبارة عن حوار في اتجاهين بين شادية وبين الكاتب الكبير أنيس منصور (رحم الله الجميع).
وعلى مدى ساعة وربما أكثر، تتابع الحوارالذي يجري برشاقة آسرة بين المطربة والكاتب، متطرقا إلى الكثير من مناقشة الجوانب الفنية والفكرية سواء لأعمال شادية أو أحوال الساحة الغنائية والسينمائية، وكذلك أحوال الساحة الثقافية والصحفية، كاشفا عن أن ما يمكن وصفه بالمحتوى الترفيهي، هو في حقيقته محتوى جاد إذا ما أحسن الإعداد له وتقديمه وعرضه، ورغم أن هذه ليست المرة الأولى التي أستمع فيها إلى ذلك الحوار الثري، لكنني لم أستطع تجاوزه، بل واصلت الاستماع إليه بمتعة مضاعفة لحوار شيق دار ربما قبل خمسين عاما أو يزيد، ورحل جميع أطرافه عن الحياة!

وشاءت الظروف أيضا في مساء ذلك اليوم أن أشاهد جانبا من حلقة لبرنامج جماهيري ذائع الصيت، ويقدمه إعلامي ، لازلت أحتفظ له بكثير من التقدير والاحترام. الفقرة استضافت ما وصفته بمطرب أغنية “شيمااااااء” التي تصدرت “التريند” على وسائل التواصل الاجتماعي في ساعات معدودة، وصحيح أن البرنامج حاول أن يرتدي معطف الطبيب، ومنظار المحلل، فيقدم لنا تشريحا لتلك الظاهرة الغريبة، لكن الحقيقة أنه لم يقدم شيئا سوى الجري وراء حمى السوشيال ميديا، والترويج ولو بشكل غير مباشر لذلك الغثاء، وبدلا من أن يقتصر الأمر على جمهور ذلك المحتوى عبر المنصات الرقمية، فرض البرنامج التلفزيونيالذي يفترض أنه جاد وهادف، على جمهوره أن يذهبوا إلى تلك المنطقة الملوثة سمعيا وبصريا وفكريا، بدعوى متابعة الأمر والنزول إلى أرض الواقع.

والحقيقة أن أرض الواقع مليئة بالكثير مما يستحق المتابعة، من قصص كفاح ونجاح حقيقية لبشر يعيشون بيننا، لكن أحوالهم وإنجازاتهم لا تستقطب اهتمام وسائل الإعلام التي لا ترى سوى كل ما يلمع عبر السوشيال ميديا، فتعتبره ذهباتسارع إلى ترويجه، قبل أن نكتشف أنه ليس سوى “صفيح لامع”!!

أحد أبرز أسباب ذلك التراجع في جودة المحتوى هو ضعف الكفاءة، وانتشار “الشللية”، التي تضمن لأعضائها بابا سحريا للفوز بالفرص، وتحرم في المقابل العديد من العقول النابهة وأصحاب المهارات الإبداعية من تقديم فكرهم، فكثير من صناع المحتوى الإعلامي تجدهم يعيدون “تدوير” الأفكار والموضوعات، بل والأشخاص أيضا، وكأن مصر بكل ثرائها وتنوعها وعمقها لا تتجاوز بضع أفكار أو وجوه أو موضوعات!!

أسوأ ما يمكن يتحول إليه الإعلام أن يكون “نشرة أحوال السوشيال ميديا”، وإذا لم تستطع وسائل الإعلام – بكل تنوعاتها- أن تجد لنفسها دورا حقيقيا يصنع المعلومات ويتعمق في قراءة الأحداث، ويقدم محتوى إبداعي هادف وجذاب يتجاوز حالة اللهاث وراء “عضات الرجال للكلاب”، فإننا أمام مأزق حقيقي يدخلنا في دائرة مفرغة من السقوط الفكري والأخلاقي لا تُحمد عقباه!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى