أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ «الموقع » خارج النص ..في محبة “الأستاذ” حسن حنفي

عندما أعود بالذاكرة إلى مقاعد الدراسة الجامعية منذ ما يقرب من ربع قرن، وأستعيد تلك الوجوه التي توالت علينا ونحن في مدرجات كلية الإعلام بجامعة القاهرة العريقة، أساتذة أجلاء من داخل الكلية وخارجها، طلاب مفعمين بالأمل، عقول شابة متشوقة لدنيا الصحافة والإنطالق في سماء الإعلام، أفكار في طور التشكل وسط صخب انتهاء القرن العشرين، وهواجس القرن القادم بكل تحدياته.

وسط كل هذا يأتي إلينا في الفرقة الثانية شيخ يعلو الشيب رأسه، شاربه الكث، ونظارته السميكة، وملامح وجهه التي تشي بأن الرجل يعاني إرهاقا دائما، ربما من طول المطالعة في متون امهات الكتب، ودائما من اعتراك الأفكار في رأسه الكبير.

المادة اسمها “الفكر العالمي المعاصر”، والرجل قادم إلينا من كلية الآداب ويدعى الدكتور حسن حنفي.

للوهلة الأولى تستشعر أنها ربما ستكون مادة عابرة في زحام المقررات الدراسية، لكنك تفاجأ بأن تلك المادة ستتحول إلى نقطة فارقة في حياتك، ليس الحياة العلمية فقط، لكنها حياتك كلها، فالرجل لم يأت ليلقي على أسماعنا بعض ما دونه في كتبه، أو بات يحفظه عن ظهر قلب من طول ما كرره في محاضراته، ولا يأتي طامعا في بيع بضع نسخ إضافية من تلك الكتب الجامعية البائسة، لكنه جاء ليشارك في صناعة عقول ظمأى لفكر حقيقي، ومفعمة برغبة حقيقية في المعرفة.

يغرينا الرجل بصوته الهادئ، وأفكاره المتدفقة، يمسك ميكرفون القاعة، ويغوص في المقعد القابع خلف منصة المدرج، وكأنه يغيب عن الدنيا، يجمح وراء أفكاره التي لا تنقطع، يسترسل في التفكير وليس الشرح، فهو ليس من عينة أولئك الأساتذة الذين يجمعون فتات المراجع العلمية، ويحاول أن يملأ بها فراغ الساعتين مدة المحاضرة، لكنه مفكر حقيقي، يدرك أن عليه مسئولية في تشكيل عقل ووجدان جيل ربما يخرج منه من يؤثر في الناس، ويسهم في صياغة مستقبلهم.

يدهشنا رفضه محاولة البعض تسجيل محاضراته، ويبرر ذلك بأن تلك المحاضرة هي مساحة للحوار المفتوح بغير قيود أو ضغوط بين الأستاذ وطلابه، وهو يرفض أن يسمح لم يتنصت على ما يدور في تلك المساحة الحرة من أفكار ونقاشات.. نستغرب، لكننا عندما نفتش في تاريخ الرجل، نكتشف أنه عانى طويلا من سوء الفهم وخبث التأويل، وأن بعضا ممن لا يطيقون حرية الفكر وديمقراطية الحوار يكفرونه ويهدرون دمه!!

ندرك أن ذلك الأستاذ مختلف، ليس كهؤلاء الذين يشغلون أنفسهم بدرجات أعمال السنة، أو امتحانات نهاية العام، فهو مهموم بما هو أكبر.. مهموم هو بصناعة وعي وفكر جيل يحمل من الأحلام أكثر مما يدرك من الأفكار.

يتوعدنا الأستاذ العجوز بألا نكرر أفكاره.. نستغرب من تهديده، يشرح لنا أنه لا يريد نسخا باهتة منه، بل يريد عقولا مستنيرة ومفكرين جدد، وأن للمجتهد أجر حتى لو أخطأ.

لا نفهم كثيرا من فلسفة ذلك الرجل الذي جاء إلينا مشحونا بالفلسفة فكرا ودراسة وعملا، لكنه يصر على أن من سيكرر أفكاره عند الإجابة على الامتحان سيرسب، وأن من سيختلف معه بفكر ومنطق ويسوق من الأدلة ما يقنعه، فسيكون على موعد مع الامتياز.

هي – إذن- فرصة نادرة لمن يسعون حقا وراء المعرفة، وورطة حقيقية لمن لا يجيدون سوى الحفظ بعدما تربوا على التلقين، وكأن الرجل يتحدى فينا نظاما تعليما رسخ في أذهاننا أن “التلميذ الشاطر” مثل “شريط الكاسيت” يجيد الحفظ والاسترجاع .

يريدنا “الأستاذ” أن نجرب التمرد على أنفسنا، ونظامنا التعليمي، ومنظومتنا الفكرية والمجتمعية التي تريدنا من “الدواجن” التي لا تجرؤ على الخروج من قفص الكتاب المدرسي، وتشعر بالغربة إذا ما ابتعدت عن أسلوب مدرسالفصل”.

تدريجيا تتحول محاضراته إلى حلبة ملاكمة فكرية، تبدأ بأسئلته الساخنة، وإشكالياته التي لا توجد في مواجهتها إجابات صحيحة وأخرى خاطئة، فكل الإجابات يمكن أن تكون صحيحة إذا ما تحصنت بالعقل، واستعانت بالمنطق، واستعصمت بحرية الفكر.. وكل الإجابات يمكن أن تكون خاطئة، إذا ما استكانت لسطوة النقل، واستنامت لهيمنة التقليد، واستغشت بثياب الماضي دون نقد أو تفكر.

وهكذا كان الرجل يحدثنا ونحن الطلاب الذين خلعنا قبل أقل من عامين فقط يونيفورم المدرسة- باحترام بالغ، فلا يتنازل أبدا عن وصفنا بـ”الأستاذ”، ويبقى يكررها بصوته الهادئ ونبرته الرخيمة عندما يوجه إلينا حديثا أو يستمع من إلى تعقيب.

يطوف بنا  بين شطآن الفكر وساحات الأفكار فيشرح لنا جدلية الأنا والآخر، ويغوص بنا في إشكاليات العقل والنقل، وحدود تقديس التراث، وهل نحن نعيش في زمننا العربي الإسلامي، أم أننا نعيش زمنا صنعه الآخر، وتركنا نتوهم أننا نمتلك قرارانا وإرادتنا؟!

يجول بنا الأستاذ في مدارس الفكر الغربي، فيعرفنا على اسبينوزا وكركيجارد، وصولا إلى الوجودية والعدمية وفلسفة اللامعقول.

يستمتع “الأستاذ” ونحن نتصارع أمامه، الليبراليون واليساريون والإسلاميون والناصريون، وحتى اولئك من لا ينتمون لفكر أو مذهب أو عقيدة سياسية، لكنهم يحاولون تلمس طريق الفكر واستخدام العقلية النقدية، التي يراها البعض “رجس من عمل الشيطان”.

لا يرفض الأستاذ رأيا، ولا يحتكر صوابا، ولا يُسفّه من وجه نظر. فقط يدفعنا إلى التفكير، ويستمتع بأن يتركنا نتحاور في وجوده، وكأنه ينظر من علٍ إلى تلك الطيور التي تغرد فوق شجرته، فلا هو يتحكم في طيرانها، ولا يحرمها من الاستمتاع بدوحته الوارفة.

وفي الامتحان، صدق “الأستاذ” وعده. أنا شخصيا لم أكن مقتنعا بكل أفكاره وكانت لدي رؤى مغايرة، خاصة فيما يتعلق بما يوصف بـ”اليسار الإسلامي” و”اشتراكية الإسلام”، فكتبت في الامتحان ما كان يمليه علي عقلي حتى وإن خالف رأي أستاذي.

لم يكن الامتحان اختبارا لقدرتي الذاتية على استخدام ما تعلمته منه، لكنه كان في الوقت ذاته اختبارا حقيقيا لصدق ومصداقية“الأستاذ واتساقه مع مبادئه، وقد نجح كلانابامتياز!

وعلى مدى السنوات التالية كنت أحرص على العودة إلى محاضراته من حين إلى آخر، رغم أنني تجاوزت المتطلبات التعليمية لذلك، لكن محاضراته بقيت زادا يصعب ألا تتاح أمامنا ولا ننهل منها، كان يتذكر وجوه بعضنا فيكتفي بتعبير هادئ يرتسم على وجهه، وهو يستغرب من رغبتنا في الحضور رغم انتهاء العلاقة الدراسية، لكنني ألمح بداخله رضا خفيا قبل أن يسمح لنا بالدخول.

تحول بعدها اسم حسن حنفي بالنسبة لي كما كان لكثيرين غيري- إلى ما يشبه الأيقونة، علامة فكرية لا تقبل التشكيك في الجودة، يكفي أن ترى اسمه على مقال فتدرك أنك على موعد مع فكر يضيف إليك حتى وإن لم تتفق معه.

ترى غلاف كتاب يتزين باسمه، فلا تضطر إلى التقليب في الفهرس، أو تصفح بعض أوراق الكتاب، وهكذا بدأت قراءاتي له بـ”هموم الفكر والوطن”، ليتحول التجول في أرجاء مشروعه الفكري والفلسفي إلى شغف حقيقي يتنقل من مطالعة رؤيته لجمال الدين الأفغاني، ويمتد إلى كتبه القديمة عن الأنا والآخر، ومحاوراته الثرية مع المفكر محمد عابد الجابري.

لم يسع حسن حنفي إلى بناء “دراويش” لفكره، بل إنه زرع بداخلنا رفض “دروشة الفكر”، أو “تبعية التفكير” حتى له شخصيا، أراد أن يشعر كل منا بتفرده، وأن يثق بعقله.

فهم حسن حنفي الإسلام بعمق، دون أن يكون أسيرا لمدرسة النقل والتدوين، واستعمل العقل إلى أقصى مايستطيع، فشطح به أحيانا، لكنه أوصله إلى مناطق من التنوير والتنور يصعب أن تجد فيها كثيرين.

أثمن ما تركه “الأستاذ” حسن حنفي، ليس أعماله أو كتبه أو محاضراته، وهي كلها بالطبع ثمينة، لكن ما تركه في عقول ونفوس تلاميذه أبقى أثر وأقوى تأثيرا.

اليوم عندما أقف بين طلابي في سنوات دراسية وكليات مختلفة، يطل من رأسي وجه “الأستاذ” حسن حنفي..صحيح أن أجواء التعليم، وطبيعة الزمن، واستعداد الطلاب وشغفهم اختلف تماما عما كان قبل ربع قرن، لكن على الأقل لا يزال احتياج الطلاب لأستاذ يأخذ بأيديهم، ويعينهم على أن يضعوا خطواتهم على الطريق الصحيح بغير احتكار للحقيقة أو استعلاء باقيا ومستمرا على الدوام.

سيبقى رحيق “حسن حنفي” ممتدا في عقول وقلوب أجيال، ربما لن يتذكر اسمه سوى النخب الثقافية ومن قرأوا له أو تتلمذوا على يديه، لكن أفكاره ومبادئه ستظل باقية كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين، فقط كان حسن حنفي كلمة طيبة وفكرا مختلفا، ورجلا أخلص لفكره فاستحق الخلود في قلوب محبيه.. وهذا أكثر ما يحلم به إنسان.

رحمك الله أستاذنا .. وجزاك عن عقول استنارت بفكرك، واستضاءت بتنويرك خير الجزاء.

نرشح لك 

أسامة السعيد يكتب لـ «الموقع » خارج النص..ماذا خسرنا بـانحطاط الفن المصري؟

أسامة السعيد يكتب لـ الموقع  خارج النص..ملحمة أكتوبر كيف نقدمها بعد 50 عاما؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى