أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ” الموقع ” خارج النص .. متى نعترف أننا “أمة في خطر”؟!

ربما نحن الدولة الوحيدة في العالم التي لو عاد نظامها التعليمي إلى الوراء لتقدمت كثيرا إلى الأمام.

انظروا إلى أي دولة لها وجود على الساحة الدولية، ستجدون أن البداية دائما من التعليم. الأمريكيون لم يستطيعوا بناء إمبراطوريتهم إلا عندما أستشرفوا المستقبل، فركزوا على التخصصات التي سيحتاجها العالم بعد عدة عقود، فامتلكوا أدوات القوة مبكرا، وأرجو أن تعودوا للبحث والاطلاع على تقرير “أمة في خطر” الذي صدر في الولايات المتحدة قبل عقود، ويحدد المخاطر التي يمكن أن تواجهها أمريكا إذا لم تدخل تغييرات حقيقية على نظامها التعليمي، وتمتلك تخصصات الدراسة المستقبلية.. وقد كان.

اليوم تجد الولايات المتحدة تبني اقتصادها ونفوذها العالمي على العلم والمعرفة، فشركة مثل “أبل” تمتلك قدرات مالية تتجاوز كل ما يملكه العرب، بما فيهم الدول النفطية!!

ورأس مال شركة مثل “فيس بوك” أو “جوجل” أكبر من رأس مال دول كبرى وعريقة في العالم، فضلا عن رأسمال أكبر في القدرة على التأثير وصياغة عقول العالم.. وقس على ذلك بقية الشركات والمؤسسات حتى الترفيهية منها، تعتمد على العلم والمعرفة.
اليابان مثال حي على دور التعليم في تغيير وصناعة المستقبل، ومن المحزن أن أذكركم أن اليابانيين عندما أرادوا بناء نهضتهم الحديثة جاءوا لزيارة مصر، ودرسوا تجربة محمد علي جيدا، وخرجوا بدرسهم الأهم، أن التعليم بداية التغيير.

كوريا الجنوبية مثال يستحق التأمل، اختاروا أن يكرسوا كل مواردهم للتعليم والصحة، في فترة قاسية من تاريخهم، فكانت النتيجة أنهم بعد سنوات معدودة تحولوا إلى قوة صناعية مبهرة، تنافس أعتى الدول الغربية.

وأستطيع أن أسرد لكم عشرات التجارب العالمية الناجحة التي كان التعليم فيها هو كلمة السر الحقيقية في إحداث أي فارق لبناء المستقبل، وأعتقد أن تلك بديهية لا يجادل فيها أحد.

شكل بلا مضمون

والآن عندما أتأمل واقعنا التعليمي، في ضوء الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها من بناء نهضة شاملة وعمران سريع وتحديث لمختلف مجالات الحياة، أشعر بالاشفاق والقلق، فنظامنا التعليمي ومقوماته الأساسية وأعمدته المركزية، لا يبدو أنهم يسيرون في اتجاه يحقق مساعي الدولة، أو يواكب أهدافها.
ولا أريد هنا أن أثقل عليكم بمعلومات يعلمها كثيرون حول مؤشرات جودة التعليم المصري، أو موقعنا بين دول العالم فيما يتعلق بمخرجات ذلك التعليم على اختلاف مستوياته ومسمياته، ولكنني هنا أتحدث من موقع ولي أمر وصحفي وباحث ومحاضر جامعي، وكلها أمور ربما منحتني الفرصة لتماس أزعم أنه كافٍ لتأمل عميق لحال التعليم في بلادنا.

أخطر ما أرصده في نظامنا التعليمي وأعتقد أنه مؤثر إلى حد كبير في ضعف وهشاشة المنتج البشري الذي يفرزه ذلك النظام، هو غلبة الشكل على المضمون، بمعنى الاهتمام المبالغ فيه بشكل العملية التعليمية والأبنية وتوفير مصادر للتعلم، دون أن نعرف ماذا نريد من كل ذلك، وإلى أين نريد أن نذهب به، تماما كمن يكرس كل طاقته لامتلاك سيارة فارهة، دون أن يسأل نفسه هل أنا بحاجة حقا لتلك السيارة، وهل أجيد قيادتها، وما مناسبتها لاحتياجاتي الحقيقية؟؟

ويبدو أن الأولوية لدى كثير من مخططي وقيادات نظامنا التعليمي صارت امتلاك أحدث التقنيات، وشراء آخر ما يستخدمه العالم، دون أن تكون لدينا الرؤية الكافية لمدى ملائمة ذلك لنا، أو قياس ما يحققه فعليا من نتائج للطالب، ويبدو الأمر وكأنه رغبة عارمة – وبلا داعي حقيقة- للتفاخر فقط بأننا نمتلك ما تمتلكه دولة كذا المتقدمة، وأن الأسلوب التعليمي الذي نتبعه استوردناه من جامعة كذا، والتي تعد من كبريات الجامعات العالمية، وكأن الأمر مجرد رغبة في التباهي والتفاخر والزهو الفارغ، بينما واقع الحال لا يتناسب مطلقا مع تلك “النفخة الكذابة”!!

أداء تمثيلي

أعرف مؤسسات تعليمية تبالغ في تفخيم نفسها بأي صورة شكلية، بداية من الاسم الذي يجب أن تحشر فيه كلمات مثل دولية أو متقدمة أو حديثة دون أن يكون لتلك الكلمات الجوفاء أي تأثير على ما تقدمه من خدمة تعليمية. كما تتجه كثير من مؤسسات “الشو” إلى ربط اسم المؤسسة بجنسية غربية جذبا للزبائن اللاهثين وراء كل ما هو أجنبي.

هذه المؤسسات لا يجيد قطاع وافر من طلابها، حتى من خريجي الجامعة، وبعضها ينتمون لما يسمى بكليات القمة، القراءة والكتابة، وأكرر وأعني ما أقول، لا يجيد كثير من طلابها قواعد الإملاء أو الكتابة بلغة صحيحة، سواء كان ذلك بالعربية أو بالانجليزية!!
المدهش أنك تجد تلك المؤسسات التعليمية تتباهى باتباع أحدث نظم الجودة، وتطبيق آخر ما توصلت إليه الافكار الغربية، دون أن ينتبهوا إلى أن معظم طلابهم يحتاجون إلى العودة إلى “الكُتاب” ليتعلموا أبسط قواعد الكتابة أو النطق الصحيح.

ولعل ذلك الأداء التمثيلي في نظامنا التعليمي، هو السبب وراء مشاعر الحسرة والحنين إلى الماضي التي تنتاب أغلبنا عند التفكير في أحوالنا التعليمية، فكثير منا تلقى تعليميه الأولي في كتاتيب أو مدارس حكومية متواضعة الإمكانيات، لكنها ثرية العطاء، فحصّل داخل تلك المؤسسات ما مكنّه لاحقا من الانطلاق في حياته واقتناص فرص واعدة ومنافسة خريجي مؤسسات تعليمية أجنبية بل والتفوق عليهم أحيانا.

وأكاد أجزم أننا تلقينا في مدارسنا الحكومية “الغلبانة” تعليما أكثر جودة وفائدة ونفعا مما يتلقاه أبناؤنا اليوم في مدارس اللغات أو في المدارس الدولية، في حين أن ما ننفقه على هؤلاء الأبناء في عام دراسي واحد، يتجاوز ما أنفق علينا في كل مسيرتنا التعليمية من الابتدائي إلى الجامعة!!

بيزنس التعليم

ويرتبط بالتباين الواضح بين الحرص على الشكل في مقابل التفريط في المضمون في نظامنا التعليمي، تحويل التعليم إلى تجارة وبيزنس، يجني العاملون فيه والقائمون على معظم مؤسساته أموالا طائلة، بينما تكتفي أجهزة الدولة المختصة بالأمر بأداء دورها التمثيلي في الرقابة أو المتابعة، وكل الأطراف تدرك أن تلك المؤسسات بلا أنياب حقيقية أو رغبة صادقة في تغيير الأحوال تغييرا جذريا، يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.

وعندما يتحول التعليم إلى بيزنس وتجارة، تنهار العملية التعليمية برمتها، فالطالب ليس سوى سلعة، وولي الأمر ليس إلا “بقرة حلوب” يتناوب المدرسون وإدارات المدارس امتصاص ما لديه حتى آخر قطرة، وعندما تتأمل ما جناه أبناؤك من تعلم أو استفادة حقيقية ستكتشف أنه لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع ما دفعته من “دم قلبك”، لكنك لا تملك سوى الاستمرار في نفس الحلقة المفرغة، لأنك لا تمتلك البديل!

وهنا لا أفرق بين تعليم حكومي أو خاص أو دولي، فالجميع سواء، الاختلاف الوحيد هو في الأداء والأدوات، لكن الجوهر واحد، والسياسة متشابهة، ففي المدارس الحكومية لا يذهب الطلاب الى المدرسة في أغلب الأحيان، ولو ذهبوا لا يستفيدون شيئا، فالاستفادة الحقيقية في “السنتر” والدرس الخصوصي!
وفِي التعليم الخاص والدولي، أنت في نظر تلك المؤسسات مجرد ممول، تدفع مصروفات دون التفات لمدى تناسب النتائج والاستفادة مع التكلفة، ويدرك أغلبنا أن تلك المبالغ تذهب إلى جيوب السادة المليونيرات أباطرة المدارس والجامعات الخاصة، بينما لا يذهب إلى عقول الطلاب سوى الفتات.

وحتى عندما يعينك الله، ويسترها معك وتنتهي من تعليم أبنائك، متصورا أنك أديت مهمتك وأتممت رسالتك، تكتشف أن ما فات ليس سوى بداية، عندما تصطدم بالحقيقة المُرة، وأن ما تلقاه أبناؤك لا يتناسب واحتياجات سوق العمل، وأنهم لكي يلحقوا بفرصة مناسبة عليهم أن يحصلوا على كورسات تدريبية بتكاليف تقترب من إجمالي ما دفعته من مصروفات لتعليمهم، وهكذا تستمر الدائرة المفرغة بلا نهاية!!

ما أحوجنا إلى الاعتراف بأننا صرنا “أمة في خطر”، وأن مواجهة ذلك الخطر تبدأ من إصلاح حقيقي للتعليم بكل مكوناته ومستوياته.
وللحديث بقية، إن منحني الله عمرا وقدرة، ومنحكم صبرا وتحملا… ولنا الله.

نرشح لك

أسامة السعيد يكتب لـ” الموقع ” خارج النص .. مشروع قومي لحماية الأخلاق ومكافحة البذاءة 

أسامة السعيد يكتب لـ” الموقع ” خارج النص ..الدكتور .. أبو جهل

أسامة السعيد يكتب لـالموقع  خارج النص .. عمر كمال.. أشطرمن عمر بن الخطاب!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى