أراء ومقالاتالموقع

أسامة السعيد يكتب لـ«الموقع »خارج النص..حواديت القاهرة .. تستعيد شباب مدينة الأربعة آلاف عام!

تشغلني منذ سنوات بعيدة حكايات القاهرة، فكما تقول العبارة الدارجة:”في مصر تحت كل حجر أثر، ولكل أثر حكاية عن بشر”.

والقاهرة أثرى عواصم الشرق – إن لم يكن العالم- كله بالحكايات، فتوالي أنظمة الحكم، واحتضانها لثقافات وحضارات سادت ثم بادت، واستضافتها واحتضانها لعناصر وأجناس من شتى أصقاع الأرض، وذوبان كل تلك المتغيرات في نسيج المدينة الساحرة، جعل شوارعها ودروبها عامرة بالحكايات والقصص التي توثقها كتب التاريخ، وترويهاوتختلقها أحيانا السير الشعبية، أو حتى تلك التي تذوب وتضيع وسط جريان نهر الحياة اليومية، الذي يمحو ضمن ما يمحوا تراثا عزيزا وتاريخا عريقة لـ”مدينة الألف مئذنة”.

أقول ذلك لأن الأسبوع الماضي كان حافلا بدعوتين عزيزتين من صديقين لهما في القلب من التقدير والمحبة رصيد كبير، والهديتان كانت القاهرة محورهما.. الأولى من الصديق العزيز والإعلامي المتميز محمود التميمي، والذي عرفته منذ سنوات طويلة كأحد نجوم الصحافة التلفزيونية، وتزاملنا في إعداد أحد البرامج الكبرى، لكنني ولأول مرة أرى محمود -رغم شغفه بكل ما يقوم به- بمثل هذه الحالة من التوهج والألق، ربما لأنه وجد ما يحبه حقا، ويسكن أعماق قلبه، فمن خلال مبادرته الجميلة “أراواح في المدينة” يحكي “محمود” لطائف من تاريخ القاهرة عبر مائة عام، معتمدا على ثروته الثمينة من التراث الصحفي، والحكايات التي حملتها صحف مصر العامرة خلال قرن مضى (1922-2022).

يستخدم “التميمي” كل إمكانيات الحكاء الصحفي، البسيط والقريب من الناس،من أجل تقديم مشروعه المميز برواية تفاصيل وحكايات القاهرة في وجهها المعاصر، ومن بيت المعمار المصري إلى مسرح الهناجر بدار الأوبرا، صار للمشروع رواد ومحبين من مختلف الأعمار والفئات، وهو ما يكشف ذلك الشغف والحاجة إلى الخروج من تفاهة مواقع التواصل الاجتماعي، والبحث عن أساليب جديدة للمعرفة.

كما استطاع الصديق محمود التميمي أن يستفيد من حسه الصحفي، في تحقيق نجاح جديد في آخر ندوات “أرواح في المدينة”، بعثوره على بطلة فيلم “حياة أو موت”، الذي استخدمه سياقا لتقديم حكايات القاهرة كما صورها الفيلم الشهير، وكان العثور على تلك البطلة الجميلة الصغيرة، بعد 68 عاما من التواري عن الأنظار، حدثا في حد ذاته، وكشفا يستحق التحية، فضلا عن كونه عنصر جذب بالغ الأهمية إلى تلك المبادرة الثرية.

ومن أكثر ما لفت انتباهي، حول ذلك الحرص الأسري على الحضور، وهي رمزية لها قيمتها، تشعرنا بأنه رغم كل ما نتألم له من سطوة المصادر المعرفية السطحية، وهيمنة السوشيال ميديا على العقول، إلا أنه عندما يتوفر محتوى جاد وقيم، فإن بالإمكان الإفلات من أسر تلك الشاشات الزرقاء التي تقود أبناءنا إلى مهالك العزلة والسطحية، وأتمنى أن يتسع نطاق المبادرة لتستضيف المزيد من الأسر.

ومن مسرح دار الأوبرا بوسط القاهرة، إلى مسرح آخر، ولكن هذه المرة على أحد الأطراف الغربية للمدينة التي لا تشيخ أبدا، فعلى مسرح جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، كنا على موعد مع العرض الأول لفيلم وثائقي عن حارة “برجوان”، وهي حارة شهيرة تمتد في قلب القاهرة التاريخية، وسكنها عبر الزمن مشاهير وأعلام، في مقدمتهم “المقريزي” عمدة مؤرخي مصر الإسلامية.

الفيلم رغم بساطة إنتاجه، لكن صدق التنفيذ، وشغف المشاركين به، يأسرك منذ اللحظة الأولى، فيأخذك في رحلة عبر الزمن عمرها أكثر من ألف عام، لتعيش مع حكايات ساردي الفيلم الصحفي والباحث المتميز، حسن حافظ، وصاحب مبادرة “سيرة القاهرة” التي أنتجت الفيلم، عبد العظيم فهمي، في أجواء أسطورية ترويها تلك الحارة التي لا تزال باقية، محافظة على العديد من ملامحها القديمة رغم كل تحولات الزمن، لكنها أيضا تعاني مثل كل الآثار في تلك المنطقة إهمالا لا يليق بعراقة الأصل، وروعة التراث.

الفيلم – وهو جزء ضمن 15 فيلما آخرين- يحكي جانبا من “سيرة القاهرة و”دروبها العامرة”، وهي أسماء المبادرات التي قرر مجموعة من الشباب المتطوعين تنفيذها حبا في قاهرة المعز، وأملا في إحياء تراثها المجيد، وتوفير ذاكرة بصرية حديثة لشوارع وبيوت ودروب تلك المدينة التي لا تنام.

لا يحظى هؤلاء الشباب بأي دعم أو تمويل، ويعتمدون على رصيدهم من العشق لتراث المدينة، في بناء تجربتهم الخاصة.. لا يمتلكون معدات حديثة تعينهم على إنتاج أعمالهم، فيستخدمون الهواتف المحمولة في إنتاج أعمالهم، لكنهم يعوضون نقص الإمكانات بثراء الوعي والمعرفة، وزاد الشغف الهائل بكل تفاصيل مدينة تحمل سيلا لا ينتهي من الحكايات.

هذه الفعاليات التي تستعرض جوانب من تاريخ القاهرة عبر فترات زمنية متفاوتة، تعيد طرح قضية في غاية الأهمية، وهي كيفية تعاملنا مع التراث، بل ومدى إحساسنا بقيمة هذا التراث، وبناء وعي حقيقي وجاد لدى جميع الفئات سواء من الكبار أو من الشباب، أو بين قاطني تلك المناطق والراغبين في زيارتها والاستمتاع بها.

وأتصور أن تقصيرا حقيقيا يشوب تعاملنا مع التراث، فمظاهر انتشار القمامة والإهمال في كثير من جنبات المناطق الأثرية أمر لا يمكن قبوله أو تبريره بأية صورة، والكثير من المنشآت الأثرية والتراثية التي تتعرض للإهمال وأحيانا للإتلاف في القاهرة التاريخية، عمدا أو إهمالا، لو كانت في بلد آخر، لأقاموا حولها الاحتفالات، وأطلقوا حملات الترويج والتسويق التي تجتذب إليها ملايين الزوار سنويا.

ولن أذهب بعيدا، وأقارن بين ما تحققه دول سياحيةكفرنسا على سبيل المثال من عائدات ترويج تراثها المادي وغير المادي، رغم أنه لا يقارن بما نمتلكه من تراث أثري وحضاري لا يوجد له مثيل في العالم، لكنني أود الإشارة إلى ما تحققه دول في إقليمنا، لا تمتلك عُشر ثروتنا الأثرية والتراثية، لكنها تمتلك قدرات تسويقية تجذب إليها الملايين من السائحين سنويا!!
ولعل هذه المبادرات غير الرسمية، في ظل غياب أو بيروقراطية المبادرات الرسمية، تدفع إلى إعادة طرح اقتراح قديم لازلت أراه ضروريا وهو تأسيس كيان عملاق لإنتاج الأفلام الوثائقية في مصر، وأن يكون لتوثيق التراث المصري المادي وغير المادي النصيب الأكبر من اهتمام هذه الكيان، على أن تكون تلك الأفلام الوثائقية مادة رائجة في قنواتنا التلفزيونية وعبر المنصات الرقمية، ترتقي بمستوى المحتوى المقدم عبر تلك القنوات والمنصات، وتكون وسيلة فعالة لبناء وعي أثري حقيقي لدى ملايين الشباب الذي يقع ضحية ضحالة وعقم الكتب المدرسية، وسذاجة وتفاهة ما تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي، كما ستكون تلك الأفلام الوثائقية عند ترجمتها وترويجها خارجيا خير تسويق لما نمتلكه من ثروات لا تزال تبهر العالم.

استعادة الاهتمام بالتراث، وإحياء شباب القاهرة عبر العديد من المبادرات الجادة والواعدة يمكن أن تمثل بداية لتقديم وجوه جديدة لمدينة تمثل نقطة التقاء لتاريخ العالم في الأربعة آلاف عام الأخيرة، فالقاهرة تضم بين أحضانها طبقات متراكمة من التاريخ الإنساني، منذ عصور مصر القديمة، وصولا إلى التاريخ المعاصر …وهذا أمر يستحقمقالا مستقلا إن كان في العمر بقية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى